في الأعوام 1961-1962أرسلتْ قيادة جبهة التحرير الوطنيّة الجزائريّة عددا من طلاّبها إلى حمص، ليدرسوا في دار المعلّمين، وليكونوا معلّمين في المستقبل، في البلد الذي يخوض حربا دفع فيها أكثر من مليون شهيد، وهم بذلك يُعدّون العدّة لتعريب التعليم في الجزائر التي يحلمون بها، وهذا يدلّ على عمق الرؤيا، وبُعد النّظر، فهم يقاتلون في المدن،والجبال، والسهول، والصحارى، ولا يغفلون عمّا يجب أن يكون عليه التعليم، في بلد حرمتْه فرنسا المحتلّة حتى من لغته، ونشرت الفرنسيّة بقوّة السلاح على مدى مئة وثلاثين سنة.
في ذلك الوقت كنّا مجموعة من الذين ينتسبون إلى حركة سياسية عقائديّة واحدة، .. كنّا نلمّ تبرّعات لصالح الثورة الجزائريّة، عبر إيصالات تُعطى للمتبرّع، وسمعنا بأنّ هناك طلاّبا في دار المعلّمين، وأنتم تعرفون طبيعة السوريّين المرحِّبَة بكل عربي يجيء إليها، فسعيتُ للتعرّف على هؤلاء الطلبة، وكانوا في بداية الشباب، كانوا ثلاثة، واحد منهم من الصحراء الجزائريّة، وآخر من ( الأمازيغ- القبايل)، وثالث من مدينة سطيف،
دعوتهم وقد أعددنا لهم طعاما يليق بالضيوف، والتقينا العديد من المرّات، وكان أكثرهم كلاما «صدّيق خرشي» من مدينة» سطيف»، بشرته بيضاء صافية، عيناه زرقاوان،
استقلّت الجزائر وكان فرحنا القوميّ بذلك ممّا يصعب وصفه، فقد كان معجزة بحق، أن ينتصر هؤلاء الذين لا يملكون إلاّ أسلحة خفيفة، على دولة مهمّة في الحلف الأطلسيّ، فذلك إعجاز يعتزّ به كلّ شرفاء العالم، وأحراره،
في عام 1973 عُقد مؤتمر الأدباء العرب في تونس، وكنتُ عضوا في الوفد السوري، وهناك تعرّفت، فيمن تعرّفت على أديب من الجزائر، وشعر كلانا باستلطاف الآخر، وأخبرته أنّني أفكّر أن أطلب إعارة إلى الجزائر، فأشرقت ملامح وجهه، وقال: هذا عنواني، فإذا قرّرت المجيء..، فأرسل لي برقيّة، وحدّد موعد وصولك، وسوف تجدني بانتظارك في المطار، وأستطيع أن أقدّم لك ما تريد من حيث المكان الذي ترغب في الإقامة فيه،
عام 1975 ذهبت مُعارا للجزائر، وكنت أستند إلى وعد وثقتُ به، وكانت أوّل مفاجأة أنني لم أجد أحدا في المطار رغم إرسالي برقيّة إلى عنوانه في مجلّة « المجاهد» الجزائريّة، وكان لديه عمل آخر في مكاتب قيادة جبهة التحرير الجزائريّة، بمعنى أنه قادر على فعل شيء، وعُيّنت في بلدة « سيدي عيش»، وبقيت أكثر من شهرين أبحث للتواصل معه، وحين رأيته بعد مُطاردة، وشكوت له واقع المنفى الذي أنا فيه، وعدني أنّه لن يكون إلاّ ما أريد، وكان ذلك آخر العهد بيننا،!!
في « سيدي عيش»، وفي جلسة مع أصدقاء مُعارين، وكان بيننا زميل من مدينة « سطيف»، وفي معرض الحديث ذكرت أولئك الذي استضفتهم في بيتي أكثر من مرّة، ولم أذكر إلا اسم « صدّيق خرشي»، حين لفظت اسمه، اتّسعت حدقتا الجزائري وقال :» أتعرفه»؟ قلت:» نعم»، قال:» هو مفتّش اللغة العربية في الأكاديميّة- يعني مديرية التربية-، ويستطيع أن ينقلك إلى مدينة « سطيف»، وكنت قد زرت هذه المدينة، ووجدت فيها تجمّعات ثقافيّة، وفنيّة، وأدبيّة يلتقون في المقاهي، وفيها ماهو مفقود في البلدة المنفى، حيث أنا ، وكانت ملتقى اجتماعيا، ولغويّا، فهي عاصمة « القبائل الصغرى»، السكّان يتكلّمون ( القبايليّة) أو الفرنسيّة، ونحن نعلّم الأجيال الجديدة العربيّة،
حين دخلتُ مكتب صدّيق خرشي، نظر إليّ، فبدت الدهشة عليه، ووقف، واحمرّ وجهه حتى أذناه احمرّتا، ورحبّ باهتمام، واعتذر مباشرة عن أنّه يُفترَض أن يستقبلني في بيته كما فعلتُ في سوريّة، وعسى أن يكون هذا، وشرحتُ له وضعي حيث أنا، فظهر عليه شيء من الارتباك، ووعد بذلك، وكان مثل وعد مَن سبَقه،
يبدو أنّ الخلل فيّ، فـ «العباد خير وبركة»، لكن العلّة في حظّي، « حظّ اعطيني وبالبحر ارميني»…
عبد الكريم النّاعم