بين المنطق والواقع ….هذه العبارة تشبه إلى حد كبير عبارة (حساب الحقل والبيدر) وبدقة أكثر ….حساب الحقل وخيبة البيدر، فالإنسان يخطىء كثيراً في الحساب ولا تتطابق المخططات التي يضعها ،أو يحلم بها ،مع نتائج هذه الأحلام ..
فالمنطق يقول لنا : لا يجوز أن يعمل الأطفال الصغار أي عمل ،أو على الأقل ألا يعمل الأطفال أعمالاً مجهدة تفوق تحمل أجسادهم الغضة الصغيرة – ولكن الواقع غير ذلك تماماً،إذ نرى الأطفال دون العاشرة يقومون بأعمال يعجز عنها الكبار ،ومن ضمن هذه الأعمال :البحث والتفتيش في حاويات القمامة ، فمنذ عشرة أيام توقفت لأنقذ طفلاً صغيراً سقط في حاوية كبيرة ، ورأيته كيف كان يمد جسده النحيل لإلتقاط شيء ما من الحاوية ، فجذبه ثقل جسده ليسقط فيها ، فاتجهت راكضاً إليه ورفعت جسده ، وقد تلوث بالقذارة ، وحين سألته : من أجبرك على هذا العمل ؟! أجابني وهو يبكي (ابو فلان ) ونطق باسم أحدهم ، ثم ابتعد وهو يمسح الأوساخ عن جسده الصغير .. وكذلك وقوف الأطفال في حر القيظ الحارق ، أو تحت البرد والزمهرير .. كي يبيعون الدخان أو المحارم .. أو العلكة .. فهل يعلم المسؤولون بمثل هذه المظاهر ؟! وماذا سيكون شعورهم لو انزلق أحد أطفالهم في حاوية للقمامة ؟!
المنطق يقول : يجب أن يزود أي مركز صحي بالأدوية الإسعافية اللازمة للحالات التي قد تؤدي الى الوفاة ..كضربة الشمس – لدغ الأفاعي ، لسعة العقارب ، نوبات الربو الحادة .. الحماض الخلوني أو ارتفاع السكر الذي يؤدي لفقدان الوعي ومن ثم الموت ، ولكن الواقع غير ذلك تماماً .. إذ لا يوجد في المراكز الريفية خاصة أي نوع من الأدوية الإسعافية !! والمضحك في الأمر ..لا.. بل المهزلة الحقيقية هي عندما تطلب منا وزارة الصحة وضع خطط سنوية لحالات الطوارىء !! مع العلم أن صندوق الطوارىء فارغ من أي أدوات أو أدوية لها علاقة بالطوارىء .. فقد زار أحد المراكز التي أترأسها أنا شخصياً وسألني أحدهم : ماهي خطتكم السنوية للطوارىء ؟! فسألته ذاهلاً : ماذا تقصدون بخطة الطوارىء ؟! فأجاب بكل جدية : على سبيل المثال ماذا ستفعلون لو تعرض المركز للقصف الامريكي أو ماذا ستعملون لو حدثت هزة أرضية ؟!
إن المنطق يقول : إن كل عامل أو موظف في الدولة يجب أن ينال الراحة الكاملة (نفسياً وجسدياً) حين يحال إلى التقاعد .. أما في الواقع فنجد أن المحال إلى المعاش يشرب الدم الخمري ، ويعاني ألف مرة خلال شهرين مما كابده وعاناه خلال ثلاثين عاماً من العمل حين يبدأ بإجراءات معاملات التقاعد !! ولن أشرح المعاناة لأنها تحتاج إلى رواية كاملة كي نكتبها .
د.نصر مشعل