تحية الصباح…من الذّاكرة 43

في خريف 1999 دُعيت إلى مصر لحضور مؤتمر «أدباء الأقاليم»، وهو مؤتمر يُعقَد كل مرّة في محافظة من المحافظات، يُستثنى من ذلك أدباء القاهرة، ولذا حين وُجّهت الدعوة اشترطوا أن يكون الاسم المقترَح من خارج أدباء العاصمة دمشق، فكنت أنا.
كان من المُنتظَر أن أجد مَن يستقبلني في المطار، وفوجئت أنني لم أجد أحداً، فكان هذا أوّل افتتاح، وحين اتّصلت في اليوم الثاني بهاتف زُوّدت به، جاء من نقلني من الفندق الذي نزلت فيه، إلى فندق آخر، وحين التقيتُ بمن كان يُفترَض أن يكون في استقبالي، وسألته عن سبب غيابه، أجابني بطريقة فهلويّة عجيبة: لا يا افندم أنا جيت، وبالعلامة كنت ماسك لوحة وعليها اسمك، ولمّا يئست من وجودك، مشيت»، أدركت أنّي أمام نموذج من تلك النّماذج، وآثرت أن أطوي الصفحة، وقلت له ساخرا:» يبدو أنّي لم أجيء «.
المدن التي لاتعرف فيها أحداً تحقن خلاياك بالكثير من الضّجر، اتصلت بشاعر مصري معروف التقيته في مهرجان المحبّة الذي كان يُعقد في اللاّذقيّة كلّ صيف، وليس لمرّة واحدة، .. اتصلت به لأخلص من الملل فرحّب، واعتذر أنّ لديه ارتباطات لمدّة يومين، فكانت الخيبة التي لم أحسب لها حسابا، شاعر مصريّ آخر التقيته في أحد مهرجانات جَرش في الأردن، حين عرّفته بنفسي، رحّب، والتقينا في أحد المقاهي، وكان أنيسا ولطيفا، ولكنْ لا يستطيع ملء ذلك الفراغ الأبكم الذي شعرت به.
ماذا تعني المدن إن لم يكن لك أحد فيها، أعني ناسا فيها؟، قبل قرابة نصف قرن، كتبتُ قصيدة قلت فيها:» مُدُن العالَم شيءٌ لا يُسلّي،/ مُدُن العالَم ناسٌ، وحجاره».
دهشتي كانت كبيرة حين شاهدت نهر النّيل، فتذكّرت قول أحد المصريّين حين شاهد نهر بردى، فقال :» إيه ده؟!! دا نهر»؟!! لحظتها أدركت أنّه قارنه بنهر النّيل الذي يسمّيه البعض بحر النّيل.
أنا هنا أتكلّم عن أيامي في القاهرة، لأنّ الأيام خارجها كانت على غير هذه الوتيرة، وربّما رجعت إليها في كتابات قادمة.
المكان الذي سحرني هو الأسواق القديمة المحيطة بمقام سيّدنا الحسين «عليه السلام » وأنا أصلا مفتون بالأماكن القديمة، لا أدري لماذا، أستطيع أن أقول ما أريد في تلك الأمكنة، ولكنّه يظلّ ناقصا عن ذلك الإحساس الجوّانيّ،
تردّدت أكثر من مرّة على هذه البقعة، وصرت أجلس في مقاهيها، وأضرب في الأزقّة الضيّقة المحيطة بها، والتي تفوح بعطر خاص،..عطر هو ابن تلك الأحاسيس الطالعة من أرض الذّوق، واللهفة، واستغربت لماذا لا يُنزلون ضيوفهم في فنادق هذه المنطقة الرائعة؟!!
رائحة المكان، ألوانه المعشَّقَة بظلال ما تكاد تبين، اللباس الشعبيّ في تلك الأحياء الذي عرفناه عبر العديد من الأفلام السينمائيّة، ومسلسلات التلفزيون، خفّة الدمّ الطالعة من الحوارات التي تسمعها، حتى لكأنّهم يردّون على كلّ قتام بخفّة الدم.
علمتُ أنّ أمسية شعريّة ستقام في مقرّ الجامعة العربيّة للشاعر المقاوم المرحوم سميح القاسم، فقصدت المكان، وكان قريبا من الفندق الذي أُنزلت فيه، فوصلت قبل الموعد، وتجوّلت في أنحاء الحديقة النّظيفة، وبينما كنت أتجوّل في أحد الممرّات أقبل سميح القاسم، وكنت أعرفه لشهرته، وهيّأت له مجموعة شعريّة، وعليه إهداء، وحين اقتربت منه، سلّمت عليه، وكان غاية في التهذيب، واللطف، فناولته المجموعة، وذهب في اتجاه، وذهبت في آخر، ولم أبعد أكثر من ثلاث خطوات حتى جاءني صوته ملهوفا وعاليا:» أستاذ عبد الكريم»، واندفع يعانقني، واعتذرَ عن عدم معرفته بي، وقال:» نحن في الأرض المحتلّة نشأنا على قصائدكم في «الآداب» البيروتيّة»، وكانت أمسية رائعة استمرّت أكثر من ساعة ونصف، قُدّمت فيها لمحات دراسيّة عن شعر القاسم، من أكثر من أكاديمي، وألقى هو فيها شعره ما يقارب الساعة.
أظنّ أنكم تقبلون إذا اعتذرت عن أنني ما أكاد أقدّم إلاّ رؤوس أقلام، ولكنّها تفتح زرقة في تلك الآفاق…

عبد الكريم النّاعم

aaalnaem@gmail.com

المزيد...
آخر الأخبار