دراسة أدبية .. «ناظم حكمت» ثالث اثنين: «دانتي وشِكسبير»!

في تاريخنا ، أعني «تاريخ الأمم والشعوب»، على امتداد هذه الأرض المُتراحِبة، ثمّة عشرات بل مئات من الذين قالوا كلمتهم، ثمّ عانقوا الألم والموت والرّحيل على شرفِ ما قالوا، وعلى صدقِ ما نطقوا.. وتشتدّ الرّياح المزوبعة، والعواصف العمياء، بالممالك والتّيجان والعروش والسلطنات طُرّاً، بهذه الدولة أو تلك، وتبقى الكلمة شامخة، شموخ شجر الحُور، متجذّرة كالسّنديان الصامد.. يقول الروائي الرّاحل «حنا مينه» بهذا الصّدد: (إنّما الكلمات مواقف، وقد وحّد هؤلاء، بين كلماتهم ومواقفهم، من هنا تجلّت عظمتُهم)! وكان الشاعر الثائر «ناظم حكمت» صاحب موقف، وصاحب شعر بآنٍ، فقد جمع – لأنّه كان مناضلاً – بين الكلمة والموقف، في كلٍّ واحد، خالٍ من الازدواجيّة المقيتة، ما بين فنّ الفنّ، وسلوكه؛ الازدواجيّة التي هي في جوهرها وأُسِّها: عجزٌ عن الإقدام والمواجهة، «حين يترتّب على المرء أنْ يعيش ما قاله، وما نطق به»، على حدّ قول «مينه».. والشاعر «حكمت»، كان من القلّة القليلة التي صمدت حتى خط النّهاية عن وعيٍ واصطبار.. لقد تحدّى هذا الرجل الاستثنائي نظاماً سفّاحاً، هو «الإقطاعيّة التركية»، المتحالفة – آنذاك – مع «الرأسمالية الفاشيّة»… وحتّى قبل أن يُعتقل بقليل، ويُحكَم عليه بالسجن الطويل، فقد وجد وسيلة أخرى لتحدّي الفاشية وفَضْحها على أوسع نطاق، حدث ذلك عندما كان يُترجم، بأحد «استوديوهات استنبول «فيلم «سيبيون الأفريقي»، الذي استغلّت الدعاية الفاشية فيه التاريخ الرّوماني، على هواها، ومما ورد بالترجمة، التي وضعها «ناظم حكمت»: «أيّها الجنود الرّومان، إنكم هنا في أفريقيا السوداء، لتمتصّوا دماء المغلوبين والضعفاء، فامضُوا إلى القتل، والسّلب، والسّرقة، وانتهاك الأعراض»!! أمّا في وطنه «تركيا»، وقبل سفره إلى الاتحاد السوفييتي، للدّراسة، فقد اهتدى في تفكيره وسعيه لتغيير الواقع المؤلم «للملايين من الأتراك، الذين يكدحون و على مدار الساعة، وعلى ظهورهم الصُّفْر آثار السّياط»، حسب رأيه.. ومن قراءة شعره، يتكشّف لنا، أنَّ القضية الشعرية عنده هي: التعبير عن التّوق للمستقبل، بقوّة الكشف والصمود في الحاضر، غايتُه الدّعوة لعالَم جديدٍ جميلٍ، مؤسَّسٍ على نظرية جديدة، وصياغة ذلك من ألسنة الحرائق الشعرية في النفس.. ولا بدّ من التنويه، أنّ «حكمت» أطلّ إلى الحياة، مع إطلالة القرن العشرين، حيث شهدت «سلانيك» التركية ولادتَه، في العام 1901 لأبوين ثريين عريقين، هما: «حكمت ناظم بك»، مدير المطبوعات العام، و»عايشة جليلة خانم»، الرسّامة! ويُجمِع النقّاد الأتراك، على أنّ الشاعر «ناظم»، كان منذ البدء مجدّداً، لا في الشكل الشعري وحده، لكن في المضمون، واللغة، والنظرة إلى الكون، وزوايا النظرة نفسها.. كتب الناقد التركي «فروزان خسرونكيه» يقول: «ناظم حكمت، أوّل مَنْ حطّم نابَ الفيل في شعرنا.. لقد أتى بشعرٍ ذي مفاهيم حيّة عطرة، مقابل ذلك الشعر الذاتي الفردي، وقد دبّت الحياة في اللغة التركية على يديه، فانبعثت وتطوّرت، ونبضت فيها الرّجولة..»! وقال «أمين يالمن»: «ناظم حكمت ابن نادر المثال لهذه الأمة، التي كان أحسن مَنْ نطق بلسانها، وأحسّ بعذابها من أعمق أعماقه»! كان «ناظم» يعمل لأجل تركيا جديدة، متحرّرة، متقدّمة، اشتراكية، وكان يكرّس وقته لفضح الفاشيّة، الأمر الذي أحقدَ الرجعية التركية عليه، فأوقفت «ناظم»، وألقت به في سجن «بورصة»، بتهمة «نشر المبادىء الهدّامَة» بصفوف الجيش، وصدر الحكم بسجنه ثمانية وعشرين عاماً، ارتفعت إلى ستة وخمسين، قضى منها ثلاثة عشر عاماً حبساً متّصلاً انفرادياً، بأكثر الأوقات، حتّى تدهورت صحّته، وأنهكه المرض، فأضرب عن الطعام في العام 1950! وهبّت عاصفة من الاحتجاجات، شملت العالَم برمّته، انتزعته من أيدي جلّاديه، ليترك وطنه الأم «تركيا» مُغادراً، قاصداً الاتحاد السوفييتي «وطنه الثاني»، كما كان يدعوه، ومثواه الأخير أيضاً، لأنَّ بلاده رفضت أنْ يُدفَن فيها، لكنه كان يريد ويرغب، كما جاء في وصيّته! ولقد تابع «ناظم» – من عام 1950، حتى وفاته في العام 1963 – حَمْلَ قضية وطنه والإنسانية في قلبه، وطلع على العالَم بروائع الشعر الإنساني، الذي تغنّى فيه بالحبّ والسّلم والحريّة والأمل، وانثالت كلماته قطراتٍ ملتهبة، حانية، عذبة، بالقصائد الموجّهة إلى زوجته «مُنوّر»، وإلى ابنه «محمد»، اللذين انفصل عنهما بعد خروجه من تركيا، إذ انقطعت أخبارهما عنه، ولم يعثر عليهما، إلّا قبل وفاته بقليل.. لقد امتزجت، كما يقول الراحل «مينه»: («الأنا»، و «النحن»، و»الكلّ»، في شعر «ناظم حكمت»، امتزاجاً عضويّاً، في وحدة غير قابلة للانفصام، عصيّة على التمييز، بين الشكل والمضمون.. والحقيقة الشعرية، التي تُولَد من شعرٍ كهذا، وتحمل طابع الأصالة الشعرية نفسها)، «تستطيع أنْ تدخل في التراث الثقافي الإنساني، وأنْ تفعل فعل الخميرة في تحوُّل العالم»! يقول «ناظم»: «إنّ الفنّ الحقيقي، هو الذي يعكس الحياة، بكلّ تناقضاتها وصراعاتها، وانتصاراتها وانكساراتها، وحبّها وبُغضها، وكلّ مظاهر إبداع إنسانها.. الفنّ الحقيقي، هو الذي يرفض الزّيف حول الحياة»!! لقد فهم «ناظم» قيمة الترابط الفكري والكفاحي بين الثائرين، فاتّجه بنظره إلى الشمال، إلى بلاد «ثورة أكتوبر» الصديقة، التي وقفت، ذات يوم، إلى جانب حرب التّحرير التركية، وذهب إلى الاتحاد السوفييتي مُنادِياً، بصوتٍ مُدوٍّ مُجلجل، كبوقٍ نحاسي، أو كمطرقة تدوي بقوّة ألف حصان:
«أنا آتٍ من الشّرق
أبشّر،
بثورة الشّرق،
هيّا افتحْ ذِراعَيك،
واحتضنّي،
هيّا أسرعْ، لا تتأخّرْ،
أعطني النّورَ لعينيّ،
والشّعورَ لرأسي،
فالذين هناك،
ينتظرونني،
وعليَّ أنْ أُسرعَ بالعودة إليهم»..
وبعودته من موسكو، بالعام 1928، تبدأ ملحمة الحياة والشعر والصّمود الأسطوري للشاعر الذي قال عنه «سعيد عقل» يوماً: «ناظم حكمت ثالثُ اثنين: دانتي وشكسبير»! ويذيع شعره في العالم، حاملاً قضية شعبه التركي المظلوم، يدخل إلى كلّ بيت في وطنه، ومعه الرّجاء والثقة والإيمان بالحياة، والدّعوة إلى الفرح، وإلى الصّمود والكفاح، هذا الأساس المتين، الذي بنى عليه كلّ آماله وطموحاته، وقد كان دائماً إلى جانب الصّمود، وهنا تكمن بصمته الكبرى العظيمة…
أبداً لم يتوقّف النّسر عن التّحليق، ولا كفَّ يوماً عن الحداء، يقول «ناظم»:
«ضمّدْ جِراحَك بيديك الرّهيبتين
وعضّ على شفتيك
مقاوِماً الأوْجاع»…
وجيه حسن

المزيد...
آخر الأخبار