تحية الصباح…ذات شتاء ….!!

كان المطر غزيراً جداً ذلك الصباح البعيد «رعد وبرق» والنهر الذي يقسم القرية قسمين شمالي وجنوبي ،تمرّد على ضفافه وعلى الجسرين الحجريين الصغيرين وغمرهما بمياهه الداكنة الهادرة .والأزقة والدروب الضيقة أنهار من الطين والماء ..والصباح قاتم ..!!.وعلينا نحن الطلبة أن نذهب إلى المدرسة ..ولكن النهر الكبير شمالي القرية هائج ومجرد النظر إليه يدب الرعب في النفس …!!
ماالعمل لعبور النهر إلى القرية الأخرى ،حيث لا مدرسة ثانوية وقتذاك في قريتنا ؟!!
أصرّ أهلونا أن نذهب إلى المدرسة ..ارتأى أحد الأهلين أن ينقلنا واحداً واحداً ويعبر بنا النهر إلى الضفة الأخرى على ظهر حصانه..وهكذا حتى صرنا على الضفة الأخرى من النهر …مشينا نحو الشمال ،وعاد ليذكرنا ذلك « الخيّال» أنه بانتظارنا ليعبر بنا النهر «إلى الضفة الجنوبية عندما نعود وهكذا كان .وكانت مقولة الأهل : إذا غبتم أيام المطر الشديد عن المدرسة …فقد تغيبون شهراً وأكثر ..وهذا غير معقول ..!!»
أن تتابع تحصيلك العلمي في قرية بعيدة ،ولا تتغيب عن دروسك مهما كان الأمر صعباً ،سيّما في الطقس الماطر الزمهريري ،فهذا لعمري جد واجتهاد في مواجهة الظروف …!!
هذا ما كان قبل نصف قرن .اليوم تغير الحال والمدارس في كل قرانا على اختلاف مراحلها .وأبناؤنا يتململون في أسرتهم في الصباح ..وثمة جهد نبذله لاستيقاظهم ..وقد يصلون متأخرين عن الدوام المدرسي والمدرسة على بعد مئات الأمتار من المنزل …لماذا ؟! هو السؤال المقلق للأهل .
كانت ،في الشتاء ،قطرات المطر تخترق سقوف بيوتنا الترابية وتبللنا بالماء وكانت مدفأة الحطب تطلق دخانها قبل أن تصبح مدفأة المازوت مألوفة ..ولم نكن نتأفف أو نحتج .كنا نصبر ونجّد ونحضّر دروسنا .اليوم أبناؤنا يرفلون بمنجزات الحضارة الحديثة. تغير كل شيء .ولكن ثمة أمور تغيّرت بشكل سلبي .أين العزيمة والجد والمثابرة عند أكثر الطلبة والتلاميذ ؟ّ أين احترام الوالدين والمعلمين وكبار السن ؟!وحتى لا نعمم ما نقول ..فإن هذه الظاهرة عند أكثر أبنائنا موجودة ويبقى السؤال :لماذا تقدمنا في حياتنا المادية فتوفرت لنا سبل الحياة الحديثة من تلفاز وبيت حديث ومدرسة قريبة وجامعات في أغلب المدن ،وماء وكهرباء في المنازل …بينما أخلاقنا وسلوكنا وقيمنا تراجعت …!!
اليوم ،يتعجب أبناؤنا كيف كنا نعيش حياة بدائية حتى أنّ أحد أبنائي سألني هل كنا نعيش في الكهوف ؟!!
هل نحن مقصرون في تربية أبنائنا ؟!!هل الموضوع ،برمته ،مسؤولية مشتركة بين المدرسة والمنزل والمجتمع ؟!!!
نعود إلى المطر الذي يغسل الوجوه والأرض وكل شيء ولعلّه يغسل قلوبنا ..!!.كانت جداتنا تقول لنا أن نشرب من المطر المنهمر كي تطول أجسامنا وتبتعد الأمراض عنها .لأن هذا الماء قادم من عند الله مباشرة ..!!المطر نعمة ،فهل نستغل كلّ قطرة مطر ونستفيد منها ؟!!
المطر ،يذكرني بشاعرين ،رحمهما الله ،بدر شاكر السياب في قصيدته «المطر «وسليمان العيسى في قصيدته «الأطفال والمطر «الأول يقول :
عيناك غابتا نخيل راح ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
مطر ..مطر ..!!
والعيسى يقول :
/مطر ..مطر ..بالنعمة انهمر ْ
بالعشب والثمر
تهللي يا أرضنا الخضراء
واستقبلي هدية السماء
رحم الله الشاعرين الكبيرين .وأمدنا الله بمطر ينفع ،وأن يكون الغيث نعمةً لا نقمة .إنّه سميع مجيب .

عيسى إسماعيل

المزيد...
آخر الأخبار