كانت ابنتي متفائلة تفاؤلاً منخفض التوتر بأن الغسالة الآلية ستكمل انجاز برنامج الغسيل هذه المرة , بعد فشل ذريع مرات ومرات , فقد قالت لها جارتنا : إنها رأت بأم عينها الورشات تعمل بجد في القطع هنا والإيصال هناك بل إن عملها كان بإشراف ومراقبة من مسؤول ذي منصب مرموق في المحافظة وعد بأنه سيجعل التيار الكهربائي مستمراً لا متقطعاً ولذلك اندفعت ابنتي بحماس منقطع النظير وملأت جرن الغسالة بوجبة ثيابية دسمة وأغلقت الباب بحزم وأدارت مفتاح التشغيل بثقة عارمة وانطلقت الغسالة الصديقة الحميمة للإنسان في تنفيذ برنامجها وابنتي تنظر إليها بإعجاب وامتنان , ولكن لم تمض عشر دقائق حتى تلعثم التيار الكهربائي وارتجفت أعصابه وكأن حالة من الصرع أصابته أو دب فيه داء الباركنسون فجأة , فقرقعت الغسالة قرقعات غير سارة ثم توقفت , وهنا تسارعت دقات قلب ابنتي وشحب وجهها وبدأت الكآبات الرمادية تنهمر عليها وانطلقت منها التساؤلات المتخمة بالحزن والغضب معاً :
ماذا سأفعل ؟ كيف سأكمل هذه الوجبة الثيابية الدسمة ؟ أيعقل أن أخرجها وأعصرها وأنقلها في كيس بلاستيكي الى حي آخر من أحياء حمص مازال فيه التيار الكهربائي ذا صحة مقبولة ؟! قلت لها : والله هذا حل منطقي ومفيد وليس هناك حل سواه فابدئي العمل به .
ولكنها تابعت تساؤلاتها المستفزة : هل يعقل هذا ؟ هل تتعرض ابنة عمي في ذلك البلد الاسكندنافي البعيد لمثل هذه المواقف ؟!
قلت لها بثقة مائعة كلبن هذه الأيام : والله إني مشفق على ابنة عمك وأمثالها وحزين لحالهم . فإذا كانوا لا يفكرون بالكهرباء , متى تأتي ومتى ترحل , متى يقوى عصبها ومتى ينهار , ولا يمضون أوقاتهم بين ترقب وانتظار فبماذا يفكرون وإذا كانوا لا يملؤون نهارهم بما صرح به مختار الحي , وما قاله موزع أسطوانات الغاز عن البطاقة الذكية والبطاقة البيضاء الملحقة بالبطاقة الذكية لأن ذكاءها لم يكن كافياً , فبماذا يملؤونه ؟!
وإذا كانوا غير منشغلين بالمئة الأولى من ليترات المازوت والمئة الثانية ولا يعرفون متى تبدأ هذه ومتى تنتهي تلك . فما الذي يشغلهم أعتقد أنهم لا يعيشون حياتهم على الأربع والعشرين ساعة بينما نحن نعيشها أربعين ساعة في الأربع والعشرين , وما طعم حياة إذا لم تعش مرارتها وخيباتها وتعقيداتها ..؟!
جحظت عينا ابنتي , وجمدت الكلمات على شفتيها وتخرسن لسانها بينما بدأت أرتجف برداً وظلاماً , فدسست جسدي تحت اللحاف المثقل بالبطانيات ولم تكن الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً إلا قليلاً وأخذت أخادع النوم علّ حلماً وردياً يزورني لماماً .
د. غسان لافي طعمة