جاءني متأخراً وأنا على وشك الانصراف ،قلت له :لقد تأخرت يا بني قال :إنني عسكري، قلت له وأنا أنحني له : تفضل يا بني لك كل وقتي وتستطيع أن تأتي ساعة تشاء بما أنك عسكري ،قال :العفو يا عمي –قلت والله أنا أعني ما أقول ،وبعد أن قمت بفحصه وتقديم العلاج اللازم من العينات الدوائية في عيادتي سألته إلى أين ستمضي …قال إلى إدلب قلت حماك الله يا بني وكادت عيناي وعيناه تدمع ونحن نتبادل نظرات الوداع لكأنه ابني أودعه وهو يذهب إلى الحرب خجلت في داخلي وتصببت عرقاً فمنذ قليل كنت لا أرى إلا ارتفاع الأسعار وما ينتج عنهما من آلام وأوجاع تمس الكثير من الناس .
في اليوم التالي دخل مريض أعرف أنه يعمل في مصفاة حمص فسألته كيف حال المصفاة؟قال :يوجد بؤرة فساد ،قلت اشرح لي ،قال :يأتون بالنفط مخلوطاً بكميات كبيرة من الماء فيقبضون ثمن الماء وتخرب المصفاة فيقبضون ثمن الإصلاح ولولا اختلاف التجار فيما بينهم لما طفت المسألة على السطح .
فلان من الناس موظف عادي تزيد ثروته عن المائة مليون فهو عضو في لجنة المشتريات …
قلت يا رجل أين الناس ؟! أين العمال؟ أين اللجنة النقابية؟ أين الجهات المعنية ؟أشاح بوجهه وهو يداري دمعة لا يريد افتضاحها .
نحن في حرب هي من أقسى الحروب وأقذرها ،ومنذ تسع سنوات تحملنا و نحتمل و في سبيل الوطن …
يومياً يزورني في عيادتي أمهات شهداء وزوجات شهداء وبنات وأبناء شهداء يذكرونني في كل لحظة بالوجع السوري الكبير الذي يجب أن نشعر به جميعاً ؟!
البعض لا يشعر بهذا الوجع بل إنهم خارج الحرب بل يستغلونها لجني الكثير من الثروات ،لماذا لا يكون الناس على قلب رجل واحد سؤال طالما طرحته وأنا أبدو ساذجا في عين نفسي لأن الجواب بسيط جداً فهذا ما كان يوماً ولن يكون لأن الناس يختلفون في ثقافاتهم ووعيهم وطريقة عيشهم .ولكنّ شعوراً مشتركاً على الأقل كان يمكن أن يكون منطقياً .
لماذا يطالب البعض الدولة بما هو فوق طاقتها وهم يعلمون أنها تناضل في ظروف قاسية تفوق طاقتها للخروج من الحرب والوصول بالوطن إلى شاطئ الأمان .
رأس السنة غير بعيد أنفق فيه الناس مبالغ كبيرة –أمشي في الشوارع فأرى التزاحم على المحال الفخمة –على المقاهي على الملاهي وأتساءل بحرقة هل نحن فعلاً في حالة حرب البعض لم يشعر بالحرب إلا من خلال الفرص التي قدمتها له الحرب لكي يستغل ويسرق ويزيد ثروته على حساب دمائنا وجراحنا وعذاباتنا وهؤلاء الذين يصرخون عبر فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي ويحرضون الناس ضد وطنهم ولهؤلاء أقول :تفضلوا وقدموا للفقراء فتات موائدكم إن كنتم صادقين ،شوارعنا أصبحت تغص بالسيارات الفارهة ومن كل الأنواع –أطفالنا يحملون جوالات لا يحلم بها المواطن الصيني أو الروسي أو الأوروبي.
على المعنيين مهمة أقسى من مهمة مكافحة الإرهاب ألا وهي تطهير الوطن بالحد الأدنى على الأقل من الحيتان التي تبتلع ثروات الوطن …على الدولة مكافحة الفساد وبقوة أشد من مكافحة الإرهاب لأن الفاسدين والمفسدين لا يقلون خطراً عن داعش وجبهة النصرة بل هم أشد خطراً وفي سبيل ذلك على الدولة أن تفتح أبوابها وأبواب القضاء وأبواب الوزارات والإدارات أمام أصحاب المصلحة الحقيقية في مكافحة الفساد وهم المواطنون العاديون العمال –الناس الكادحين ..وأن نجعل المسافة صفراً بين المسؤول والمواطن – الناس كلهم مسؤولون عن مكافحة الفساد وعلينا ألا نقف متفرجين وكأن الأمر لا يعنينا لكن على ما يبدو أن الكثير من الناس في بلدنا هم في انتظار جودو ….
د. حسن شدود