تحية الصباح…في دمشق

أهرب من الظلام فيلاحقني في كل مكان ،أتوقّى البرد فيلاصقني أينما حللت ،أصم أذني عن أخبار الأسعار ولكنها تطل عليّ بل تقتحمني في كل شيء أشتريه أو أنظر إليه من بعيد ،فلا أجد لي مهرباً من كل ذلك إلا الاحتماء بدمشق ،دمشق النبيلة الجميلة التي عرفتها في السبعينيات ،وقرأتها وحفظتها في قصائد الشعراء ،فأشعر بالنور وأنسى الظلام ،وأحس بالدفء ويبتعد عني البرد مقهوراً ،وأسمع ملء أذني وقلبي ،أسمع عصفور الجليل المغرد محمود درويش يصدح :
في دمشق ….
ينام الغريب على ظله واقفاً
مثل مئذنة في سرير الأبد
في دمشق يواصل فعل المضارع أشغاله
الأموية ..نمضي إلى غدنا
واثقين من الشمس
في دمشق أنا والأبد
سكان هذا البلد
أشعر أن عصفور الجليل كان يتحدث باسم كل العصافير التي جاءت إلى شجرة السنديان دمشق ونامت على أغصانها آمنة مطمئنة فلم تكسر لها دمشق منقاراً ولا جرحت جناحاً ،وإنّما شجعتها أن تبني لها أعشاشاً وأنا كنت واحداً منها في السبعينيات .
وإذا كانت الروح ترفرف دائماً حول المكان ،فإن الروح ترى في دمشق ياسمينها وحبيبها الجميل النبيل نزار قباني الذي لا أمل من القراءة في مفكرته ،مفكرة العاشق الدمشقي :
ياشام إن جراحي لا ضفاف لها
فمسّحي عن جبيني الحزن والتعبا
وأرجعيني إلى أسوار مدرستي
وأرجعي الحبر والطبشور والكتبا
تلك الزواريب كم كنزٍ طمرت بها
وكم تركت عليها ذكريات صبا
ومن حي مئذنة الشحم والباب الصغير حيث منزل الشاعر نزار قباني أسرع إلى ضفة نهر بردى إلى معرض دمشق الدولي القديم ،وإلى مسرحه العريق الذي تعطر لسنين وسنين بإبداعات الأخوين رحباني وأصغي إلى سفيرتنا إلى النجوم فيروز ترتل ترتيلاً راقياً كلمات الفنان والفيلسوف والشاعر منصور الرحباني :
بالنار كللت أم بالغار يا شام
أنت الأميرة تعلو باسمك الهام
ختام تشرين هل ناس أوائله
إذهب يعتصر العنقود كرّام ؟!
وأنا واقف في المسرح القديم لمعرض دمشق الدولي ،أصغي إلى فيروز تطل عليّ أرزة لبنان الشعرية الباذخة سعيد عقل ،فأصغي وأصغي ولا أمل من الإصغاء وأشعر أن النور كله قد غمرني ،وأن الدفء قد أورق في شراييني وأوردتي ،…
ظمئ الشرق فيا شام اسكبي
واملئي الكأس له حتى الجمام
أهلك التاريخ من فضلتهم
ذكرهم في عروة الدهر وسام
وأنتشي وأنتشي إلى درجة لذاذات الخدر وأنا أتابع الإصغاء لترتيل ذلك الكبير الكبير في العشق والشعر سعيد عقل :
مرَّ بي يا واعداً وعدا
مثلما النسمة من بردى
الهوى لحظ شامية رق
حتى ملته نفذا
يأخذني لحظ شامية إلى من اختزنت خضرة اللوز في عينيها ،ومن سلسلت مياه الفيجة في كلماتها ،فأهتف دون وعي :إن دمشق ستبقى خضراء غنّاء ولن تحرقها مؤامرات الفجّار وحمّى الأسعار .

د. غسان لافي طعمة

المزيد...
آخر الأخبار