زيارتي لليمن عام 2005 ما أظنّ أن مقالا واحدا، أو أكثر يمكن أن يوفيها حقّها، ولذا أكتفي بملامح عسى أن تعطي بعض الصورة التي حملت، مع الإشارة أنّنا في الغالب، تظلّ تلك المسافة ..الفجوة، بين ما ارتسم في أعماقنا من بهاء، وما تستطيع الكلمة أن تحمله.
خُصِّصت لي سيارة لتنقلاتي، وكان ثمّة أدباء من دول الخليج، فاعتذرت عن ركوبها، إذ خجلت من ذلك، وظلّت تنقّلاتي مع الأدباء الآخرين بواسطة ميكروباص، وذات جولة، وكان اليوم يوم جمعة، أُذِّن لصلاة الظهر، فذهب الجميع إلى أقرب مسجد، دون أن يهتمّ أحد هل هو (للزّيود)، أم(للشوافعة)، وهما المذهبان الغالبان في اليمن، وبدا أنّ الحساسية المذهبيّة غير موجودة، فالذي يُطرح في اليمن، في الأوساط الثقافيّة له علاقة بالفكر، وبالمستقبل، محمولا على شعارات معاصرة، دون رفض كليّ للماضي، عدا الذين يتبنّون أفكار « الاخوان المسلمين»، فهؤلاء، كما هو معروف يعيشون أوهامهم خارج نبض العصر، ولفتَني بين أدباء اليمن ذلك الحسّ العروبيّ العالي، الأصيل،
– قصر « الحجَر»، ذلك القصر المدهش، والمؤلّف من أربعة طوابق، مُقامة على صخرة واحدة عالية، جدرانه كلّها من حجر البازلت، ولا بدّ أن يتساءل المرء كم كلّف من جُهد، وعرق، وأموال؟ حتى جاء على هذه الصيغة، وقد كان يُقيم فيه « إمام اليمن» الحاكم، وما زال مفروشا بأثاثه القديم الجميل، وثمّة من يشرح لنا عن كلّ غرفة وحُجرة ما كانت مخصّصة له، إنّه واحد من المعالم النّادرة الفريدة، وفيه من القطع الأثريّة ما لا يُقدّر بثمن.
في إحدى البقاع أشاروا إلى شجرة « القات»، وهي شجرة آفة في اليمن، قُطعت الكثير من الأشجار المثمرة، والبساتين العامرة من أجل زراعة « القات»، والقات جزء حياتي لدى أهل اليمن، وهو ورق تُقطَف أوراقه، وتُغسل، وتُوضع في الفم، ويسمّونه « التخزين»، ويظلّ هذا المخزون يُمضغ ببطء، وتُشرب معه بعض العصائر، وعامّة اليمنيّين يدافعون عن مزاياه التي هي فيه، فهم يقولون إنّه يمدّ الجسم بطاقة من النشاط، والحيويّة، والجلَد، وإذا ذكرتَ لهم الخمرة تعوّذوا بالله،.. القات مشكلة حقيقيّة في اليمن، فأنت تدخل مخزَنا ما لتشتري فيجيبك صاحبه وجانب حنكه منتفخ بالقات، وتلك مسألة عاديّة في عرفهم، وهو يشكّل عبئا ماديّا حقيقيّا على عامّة الناس، لا سيّما وأنّ للنساء مجالسهنّ الخاصّة للقات، وفي البيوت غرفة خاصة لمجلس القات، تقع في طرف منه، والرجال اليمنيّون لا يقيلون، بل يذهبون لمجلس القات بعد انتهاء الدوام الرسمي، ويسمّونه ( المَقيل)، ويظلّون في هذا المجلس حتى قرب المغرب، فينفضّون، وللمجلس آدابه، فإذا جاء ذو مرتبة في الدولة، ووُجد أحد الموظفين عنده، فإنه غير مضطرّ للقيام له، أو إجلاسه في محلّه،
جلسات ( المَقيل) التي حضرتُها، كلّها كان فيها أيقونة الثقافة اليمنيّة، الشاعر والنّاقد والمفكّر د. عبد العزيز المَقالِح، وهو لا يتناول القات بتاتاً، وكان يطرح موضوعا فكريّا، أو أدبيّا، ويطلب من الموجودين مناقشته، ويدير الجلسة، فيتحوّل ( المَقيل) إلى ندوة فكريّة عالية المستوى،ذات ليلة حاولت النّوم، فكنت كلّما اقتربت من الاغفاء انقطع نفسي، وجزعت، وخشيت أن يكون موتي في بلد أنا ضيف فيه، وكم سيكون ذلك مُربكاً، ولم أتّصل بأحد، رغم أنّ أحد الأخوة اليمنيّين كان ينام في الفندق لتلبية أي طلب أريد، ولكنني خجلت من إيقاظه، في الصباح نقلوني إلى مشفى خاص، ومعي أدويتي القلبيّة، وبعد التخطيط القلبي، قال لي الطبيب:» المسألة ليست مسألة قلبيّة، بل اختلاف الضغط، وحجم الأوكسجين، نتيجة لارتفاع صنعاء، وما أصابك أمر عاديّ، وسوف تعتاد عليه بعد أيام»
-اليوم حين أرى طيران التحالف السعودي الصهيوني على اليمن، أشعر أنّ مساحة من روحي تُقصف، حمى الله اليمن، وبارك فيها، ونصرها وهي المبارَكة…
عبد الكريم النّاعم