يقول أرسطو: يجب دك رصانة الخصم بالضحك، وجعل الضحك منافساً للجد.فالاستعداد للضحك قوّة إيجابية، يمكن أن تكون لها قيمة معرفية لما فيها من أحجيات فطِنة، واستعارات غير متوقّعة، ممّا يجعلنا ننظر إلى مفارقات الحياة على نحو أحسن، ونصل إلى الحقيقة بيسر، من خلال تصوير البشر والعالم بكيفية غير التي عوّدتْنا عليها الملاحم والبطولات والمآسي، وحياة القدّيسين.حيث يرتفع الضحك إلى مستوى الفن، وقد يصبح موضوعاً فلسفياً، حين يتحوّل إلى فكر، فيغدو طاقة تحرّر من الخوف، وحين نتحرّر من الخوف، تنخلع أفئدة الطّغاة الوقورين، خوفاً، من اندلاع الشرارة الشيطانية، التي يمكنها أن تضرم في العالم أجمع حريقاً جديداً.نعم إنه الضحك الذي ارتبط – وللأسف-في ثقافتنا وسلوكنا بالهزل، والاستهتار .بالرغم من أنّ الإنسان صُنِّفَ – تمييزاً له عن باقي المخلوقات، بأنّه هو الحيوان الوحيد الضاحك، لأنّه أعمق المخلوقات ألماً . وقد قيل أنّ الضحك فضيلة اختصّ بها البشر، لتُعَزّيهم عمّا لديهم من ذكاء، وقدرةٍ عقليّة .
فلماذا نضحك ؟ ومتى نضحك ؟ وكيف نضحك ؟ وهل الضحك فطرة أم اكتساب؟ وهل هو رضىً واقتناع، أم انتقاد ورفض ؟
هل نضحك من السرور أم من الألم ؟ وهل نضحك لأننا لطفاء وأبرياء؟ أم لأننا خبثاء ولئيمون ؟ ولماذا يضحك البعض كثيراً والبعض الآخر لا يضحك ؟ومتى ، وكيف يكون الأمر مُضحكاً ؟ وهل هناك قاعدة، أو وصفة لصنع ما هو مضحك؟؟؟
ثُمّ، ما هي استثمارات الضحك ؟…وما هي حال الضحك في الإنتاج الأدبي والفنّي ؟
للإجابة على أسئلة بهذا البعد، أراني متورّطةً في بحث فلسفي، و سايكولوجي قد يستغرق ماهو أوسع وأعمق من كتابة مختصرة عن الأدب الساخر، الذي يجعل الضحك فنّاً، وفكراً، قادراً على أن يتحرّى الباطن، المختفي وراء كلّ ظاهر، وأن يكتب الألم؟
إنّ الأدب الساخر فنّ لا يتأتّى إلاّ إلى قلّة من الموهوبين، القادرين على إيقاع المتلقّي في حمأة المفارقة، بين الواقع والمُتَوقّع، فتعرف عندئذٍ الأشياء بالأضداد، وهو، لعمري، أمر في غاية من الصعوبة لمن أراد أن يتقحّم هذا المجال، بلا إسفاف، ولا تهريج أو ابتذال، ولنا في الجاحظ، وبديع الزمان الهمذاني، وما تحدّر من سيرة نصر الملاّ نصر الدين (جُحا)، وكذلك ،جورج برنارد شو، وموليير، أسوة . فهؤلاء، سخروا بأدبهم سخريةً هادفة، جادّة، بقصد توضيح الصورة، وجلاء الحقيقة .
بعيداً عن التجهّم، والتشنّج، والتعالم، يمضي بنا الأدب الساخر مُسلّطاً الضوء على الهموم الحياتية : السياسية ، والثقافية ، والتربوية، والاقتصادية ، الاجتماعية ، وغيرها من القضايا التي تشغلنا بل وتقضّ مضاجعنا ،في قراءة، ضاحكة، وماتعة، لواقع مأزوم! فكم هي المفارقة؟
وللأديب الساخر لغةٍ، لها جدلها الذاتي،فيها من العذوبة، والدلالة، ما يجعلها تؤدّي وظيفتها التواصلية والجمالية على أكمل وجه، عبر علاقة العام بالخاص، أي علاقة اللغة –الأدب-بالمجتمع الإنساني. وذلك، بأسلوب ساخر، يحيل المتلقي إلى خانة المُحرَّض، فتلتمع في عينيه الدمعة، في اللحظة التي تتفلّت منه ابتسامة، وربّما ضحكة، تصل إلى القهقهة الموجوعة أحياناً، وذلك لذكاء التقاط المفارقات، على مساحة من واقع مأزوم.
إنّه الضحك الإنتقادي، أو الناقد، الذي يُشَكّل الوجه الإيجابي منه، وهو وسيلة اجتماعية، فنّية، تهدف إلى كشف الفرق، و(ملاحظة) الواقع، وإظهاره (كاريكاتيرياً)، ثمّ وضعه موضع الإضحاك (سخريةً )، وذلك، بعفوية وبراءة، بخبث، وسخرية، وألم،وتلميحات ذكية، ومكر لمّاح،فيُدخلنا ببراءة طفلٍ مُشاكسٍ،إلى همومنا الصغيرة والكبيرة، المُصًنّفة في خانة الهموم التي تهدّد وجودنا من قبل الطغيان العالمي .
تتمحور موضوعات السخرية حول الحريات، بكلّ مسمياتها،والفساد الوظيفي، والإداري، والتخلّف ، باختصار: كل ما يعيث في جسد الوطن، وروح المواطنة، من زاويتَي :الحق والاستحقاق.
الأدب الساخر فنّ مُخاتلٍ،في صورة عابثة،يهدف لتنقية الحياة من عبث العابثين، حيث يتألّق هنا الأدب الساخر أدباً ملتزماً بقضايا الإنسان كافة، كنهج مضنٍ لتطوير الحياة في بلدنا، وفضح كلّ ما يهدّدنا، داخلياً،وخارجياً.
بمثل هذا النوع من الكتابة يغدو الضحك فصاحة المقهورين، في أزمنة وأمكنة القهر، بل هو احتجاج على، واقع مأزوم ، ملتبس.
بمثل هذا النوع من الكتابة الساخرة يرتفع الضّحك، ويرقى إلى مكانة سلاح ذكي، إذ يستعيض عن خطابة الإقناع بخطابة السخرية، عندئذ،سيكون أوّل المهزومين هم الطغاة، والانتهازيون ، والأغبياء، والمنافقون، من خلال تصوير العيب، والنقص، والضعف، بحيث يظهر لنا بالمفارقات، كيف أن الأغبياء يحرسون الفكر.
فتنبع السخرية من الألم، بعد تأمّل وإشفاق يشتعل في صدر الكاتب الساخر ليقول الحق جليّاً، ولو على نفسه.
غادة اليوسف
المزيد...