تتمّة لما كتبتُه عن زيارتي لتونس، في تشرين الأول 1963 أتابع بعض ما بقي في الذاكرة …
في تلك الاحتفالات بالجلاء عن مدينة بنزرت الميناء الساحلي لتونس، كان أهمّ المدعوّين القائد الراحل عبد الناصر الذي مدّ ثوّار الجزائر بالإمكانيات المُتاحة، وله فضل كبير في نشر فكرة العروبة في بلاد المغرب جميعها،همس في أذني أحد الأخوة التونسيّين، وكأنّه يهرّب أمراً خطيراً، .. همس أنّ بعض اليهود الموجودين في تونس، يرسلون رسائل بالبريد العاديّ، إلى أقرباء، أو أصدقاء لهم في فلسطين المحتلّة، وكان مثل هذا فظيعا في عرف الشارع العربي، فانظر الآن إلى أين وصل حجم الانبطاح الرسمي في دول الخليج خاصّة، يُقْدمون على ذلك وكأنّهم لم يفعلوا شيئا، يمسّ صميم الكرامة القوميّة،
في تلك السنوات لم يكن في العاصمة تونس من الفنادق ما يكفي، بل كان ثمّة نقص كبير، استدركته فيما بعد، خلال أقلّ من عشر سنوات
-في هذه الزيارة، ذات مساء دُعينا للاستماع إلى بعض الوزراء، ليقدّموا لنا شروحاً عن إنجازات هذا البلد، دخلت القاعة فوجدت جميع الوفود المدعوّة قد خُصِّصت لها طاولات للجلوس، وعليها علَم البلد، ماعدا الوفد السوري، فاخترت طاولة عليها علَم فلسطين، فسلّمت وجلست، ورحّبوا بي، وسألني احدهم ماذا أعددتَ لهذا اليوم من أسئلة، ملمِّحا إلى السؤال الذي سألته للرئيس بو رقيبة»، قلت له:» صدّقني أنّني لستُ هاويَ إثارة مشاكل، وإنّما أنا مواطن عربي، أحمل في داخلي همّ هذا الوطن، ليس أكثر»،
بدأ الوزراء يشرحون ما تحقّق في تونس، وعن طموحاتها، وعن همومها، وكان ممّن ما زلت أذكر أسماءهم الوزير أحمد بن صالح، وكان يتبنّى خطّاً اشتراكيّا، وربّما اصطدم مع توجهات بو رقيبة فسُجن، ثمّ فرّ من السجن، أو يسّروا له الفرار، وقف وتكلّم، وطلب توجيه أسئلة الموجودين، فكان أن رفعتُ يدي، وقلت له ما مفاده:» سيادة الوزير، إنّ إسرائيل تسعى جاهدة لإقامة علاقات مع دول أفريقيا، وأنتم على تواصل، وتجاور مع هذه البلدان، فهل قمتم بأيّ خطوة في هذا الاتجاه، وهل أنتم مستعدّون لقطع العلاقات الديبلوماسيّة مع أيّ بلد إفريقيّ يقيم علاقة مع إسرائيل»، قال:» أعتذر عن الإجابة، هذا سؤال يُجيب عليه وزير الخارجيّة»، وحين انتهى بن صالح من الكلام، وقف وزير الخارجية آنذاك، ألْمُنجي سْليم، وبدأ بالكلام، وتجاهل سؤالي، ولكنّه في منتصف الإجابة عن سؤال لأحد الصحفيين، التفت إلى حيث أجلس، وقال بالنسبة لسؤال الأخ من سوريّة سأجيب عليه في نهاية الكلام، وقبل أن يُنهي كلامه، قال ما مفاده:» إذا كان ثمّة بلد عربي واحد مستعدّ لقطع علاقاته مع بلد إفريقي يُقيم علاقة مع إسرائيل، فسوف نكون نحن البلد الثاني في قطع العلاقات»، وفهم مَن فهم أنّ التّلميح كان يخصّ مصر تحديدا،
-أقول إنّ فيما أكتب أكثر من هدف، ولعلّ أهمها أن نُقارن بشجاعة ومسؤوليّة بين ما كانت عليه الدول العربيّة في ذلك الزمن، وهذا الزمن الذي نحن فيه، ولا أقول إنّ مواقف القوى الرجعيّة المعوِّقة كان مستنداً إلى قناعات وطنيّة قوميّة مبدئيّة، فهم منذ تأسيس الكيان الصهيوني، كانوا مطيعين لأوامر إنكلترا أوّلا، ومن ثم لأمريكا، ومتعاونين سرّا مع هذا العدوّ، حسبما كشفت بعض الوثائق، وما زال بعضها الآخر مخفيّا حتى الآن، ..لم يفعلوا ذلك استجابة لروح وطنيّة بل لأنّ حركة النهوض القوميّة كانت في حالة صعود، وتحمل الكثير من البشارات، وكان عبد النّاصر يُخيفهم وهم في قصورهم، إذ كان قادرا على تحريك الشارع بقوّة حتى في بلدانهم…
عبد الكريم النّاعم