يبين الدكتور حسن فتح الباب في مقدمته لديوان الدكتور هيثم يحيى الخواجة المعنون بـ «أماه كيف تركت طفل الياسمين» أن هذا الديوان هو الأول من نوعه من حيث تخصصه برثاء الأم أم الشاعر من أول سطر حتى آخر قافية ويسرد لنا في هذه المقدمة كيف أن الشاعر/ أي شاعر /وعبر العصور رثى أمه بقصيدة أو قصيدتين ضمن ديوانه الشعري أما أن يختص الديوان بكامله في رثائها فهذا جديد على المشهد الشعري ويرى الدكتور حسن فتح الباب أن امكانيات هيثم يحيى الخواجة تتجلى في معجمه اللغوي إذ تتكرر كلمات نزيف ومشتقاتها في الكثرة الغالبة من قصائده حتى تكاد تكون المحور الذي تدور حوله ،ومثلها كلمات الجرح والحزن والألم والدمع بمشتقاتها كما تتكرر كلمات التلاقي والفراق والغياب والحنان والحنين ،هذا الكلام مقتبس من مقدمة ديوان الدكتور هيثم يحيى الخواجة المعنون كما ذكرناه (أما ه كيف تركت طفل الياسمين) وهو الديوان الشعري الوحيد للشاعر الخواجة فله اثنان آخران للأطفال وله كما نعلم العشرات من العناوين المسرحية والنقد والتراجم وسبق لجريدتنا أن أجرت حواراً مطولاً معه وهو أديب حمصي ومسرحي اشتغل كثيراً على تجربته المسرحية تأليفاً وإخراجاً ونقداً وتمثيلاً حتى وصل إلى ما وصل إليه من ريادة والمجموعة الشعرية التي بين يدينا مؤلفة من 110 صفحات من القطع المتوسط تضم 38 قصيدة مبنية على نظام التفعيلة كلها خطها في رثاء والدته صدرت حديثاً .
على قلق
تفعيلات الشاعر تظهره حزيناً يبكي بصمت رحيل أحب المخلوقات إلى نفسه وهي أمه التي غادرته دون أن يتمكن من وداعها ،بسبب غربته القسرية بهدف العمل .فتأتي قصيدته قلقة خائفة لا تقيم وزناً لأي مطلب في الحياة لقد استوت في نفسه كل الرغبات فاليد ترحل خاوية لا تقبض شيئاً يقول ص90 :أي أشلاء تهاوت في الرماد ! أي أقدام تراخت في الوهاد أي أحزان تغني للشتات أي أيد صفرات صفرات صفرات
نلحظ تكرار الشاعر لكلمة صفرات ثلاث مرات مريداً في ذلك توكيد خلو اليد في الكفن دون أن يصرح بأي كلمة إنما يكتفي بالترميز والتلميح بألفاظ سهلة بعيداً عن التلغيز الذي اعتاده الكثيرون من شعراء ما بعد الحداثة يدخل في باب الغموض البهيم الذي لا يشف عن أي معنى .
وبعد كل مكابداته وحسراته لا يجد حرجاً في طلب العودة ربما وجوب عودة أمه إلى الحياة أو وجوب عودته هو من غربته يقول ص87 : لاشيء بعد يخيفني … الموت يطفىء كل حب /كل حلم /كل شوق /والرماد يستفتح السفر البعيد عودي فقد حط الغراب /والقلب سبح للغياب /عودي فقد حان المآب
مثل كل قصائد الرثاء يتكىء الشاعر على بوحه ليتمكن من الانعتاق من إسار حزن طغى على التفاصيل الموجعة ويريد الشاعر الخلاص يقول ص53 :في فتوق الليل أضع الطين مدى /أقطف البوح أماناً /أنضوي /تحت السنابل /علني أنشر وجدي وأطير /علني أجمع شعري /كي أفيق .
دراما
هناك خط درامي في معظم قصائد «ديوان «أماه «تبدأ بجملة خبرية تزجنا في صلب الحدث الحزين ثم يتنامى إحساس الشاعر حتى ينهي قصيدته بجملة من الاستفهام الاستنكاري حيث يحتج الشاعر على النهايات المأسوية المتشابهة فالموت خاتمة كل الحيوات مما يوجب عليه العودة إلى الديار فقد شقّت الغربة روحه وجعلت شعره يقطر دماً يقول ص49:
أماه .. من ..؟هذا أنا /فلقد أتيت معانقاً درري التليدة /أماه …! /لا شيء يغريني سواك /لا شيء يملأ لي مكاني /ما عدت لأجني من دمعي /غير الأشجان /ما حيلتي والبعد مزقني /وشتت مهجتي /حتى الوداع فقدته /حتى الملامسة الأخيرة .
ومضات
تتميز قصائد الشاعر بالومضات فالفكرة تظل تنقر زجاج روحه حتى تخرج ومضة سريعة تصيب هدفها مباشرة وأصغر ومضة من حيث عدد الكلمات معنونة بـ»إنهاك «مؤلفة من 12 كلمة يبين فيها الشاعر عتمة المصير الذي آل إليه بعد رحيل أمه فيقول :ص 51 :
جسدي يتفرع إيقاعاً وصراخاً /ودمي يغويه ضياع /ماعدت سأجني من دمعي ما عدت أضيء .
نلحظ من خلال استخدام الشاعر لمفردة «أضيء» أنه يستخدمها كناية عن تشبيه نفسه بالمصباح أو الشمس أو أي مصدر ضوئي آخر ولكن بدهية الشاعر الحاضرة تنقذه دوماً في اختيار مفرداته بعناية حيث حرصه على الفعل «أضيء «يدل على الحركة والحدث أكثر من استخدامه للاسم الذي يفيد الجمود والثبات .
صورة خاصة به
تتميز صور الشاعر بخصوصيتها المتفردة فلم يسبقه أحد إليها لأنه يحرث في أرض بور ونسوق مثالاً على كلامنا هذا أمثلة متعددة مثل :
طير ضرير /أخاصر البحر المسجى ،قلبي بوار ،دقت صنوج الفاجعة ، عروة للقلب ،
صرة الأحداث ،رغيف ماضينا .وغيرها الكثير الكثير من الصور التي تكون معجم الشاعر الخاص به فالرثاء على يديه يفتح للقارئ آفاقاً جديدة من المعاني وليست الصورة من تتفرد في هذا الديوان فقط بل المعاني أيضاً مثل نور النور ،صبح الصبح ،دمع الدموع .فالشاعر يشتغل كثيراً على مفرداته بعفوية تبدي شدة حزنه على رحيل أمه .
عودي
(أماه لماذا تركت طفل الياسمين )في هذا العنوان يشبه الشاعر نفسه بطفل الياسمين ويشبه أمه بشجرة الياسمين التي كانت تحرص على الاعتناء بها في حديقة بيتهم القديم فالشاعر لا يزال طفلاً يطلب من أمه أن تعود ،فبعد كل قصائده ومكابداته لا يجد حرجاً في طلب العودة من أمه فيقول ص88: عودي فقد حط الغراب والقلب سبح للغياب /عودي فقد حان المآب /عودي فقد حان المآب .
وهو يعلم أنها لن تعود لكنه يطالبها بالعودة فهو لا يزال طفلاً فقد أجج
رحيلها كل ذكرياته الأولى معها .
ميمونة العلي
المزيد...