وعند بابي يصرخ الأشقياء / اعصر لنا من مقلتيك الضياء/ فإننا مظلمون
وعند بابي يصرخ المخبرون / صعبٌ هو المرقى إلى الجلجلة / والصخر يا سيزيف / ما أثقلهْ / سيزيف إن الصخرة الآخرون.. «بدر شاكر السياب».
من هم الآخرون، الظامئون، الذين يعصر لهم المبدع ضوء بصيرته ليبصروا؟ من هم المسرودلهم..؟
إنّهم الآخر، الكامن، الممتد منّا إلى الآخر القريب البعيد، والبعيد الغريب، مروراً بالآخر القريب المؤالف حيناً، والمخالف أحياناً، في نداء تصاعدي مفتوح لا حدود له، إلى الآخر المطلق، في رحلة الصوت صوب فردوس اكتمالنا الإنساني ، إنه صوت الفن، الأدب، الجمال، الصوت الذي هو ثورة في الزمن المطلق .
السرد، هذا الذي اقتحم حياتنا الثقافية، ودمغها بفنونه، من رسم، وموسيقا، ورقص، ومسرح، والتي استمدّت موضوعاتها من القصص الدينية، والشعبية، والأسطورية، حيث استبطن كلٌّ منها سرد قصة. لكن هذه السرود – على علوّ شأنها – ليست ذات شأن أمام فنون القول..فنون اللغة، التي هي تجسيد حيّ للوعي، والتي لا تجد ما يمنحها الحياة والسيرورة – بوصف سيرورتها سيرورة للوعي – مثلما تجد ذلك في السرد الروائي والقصصي، وذلك لما تتيحه القصة من رحابة للمساحة الخاصة باللذة الجمالية، والقدرة على الجذب،و بالقدر الكبير، من ديمومة لذة السرد ، التي منحت لشهرزاد حياةً متجدّدة مع كل فجر .
وجميلٌ، بقدر ما هو ضروري، أن شهرزاد سوف لن تتوقف عن سرد الحكاية! حكايتها، التي هي حكايتنا جميعاً.
ولأنّ قراءتي لشهرزاد الليلة، الأديبة ملك حاج عبيد لم تتعدّ ثلاثةً من أعمالها، وهي: (الغرباء ) و(البستان) و(حكايات الليل والنهار) ، لذا، لن أدعي الإحاطة بكل ما أبدعتْه هذه الأديبة، وشهادتي هذه، لا تعدو أن تكون ارتجالاً في إبداء الرأي، وقراءة ذاتية، عبْر جولة بانوراميّة، في عوالم، ونصوص هذه المجموعات . .
عندما يستطيع نصٌّ طويل – نسبياً- كنصوص الأديبة ملك، أن يستمرّ في اجتذاب المتلقي، فمعنى ذلك، أن لهذا النص قدرة نوعية على الشدّ والأسر في الإطار الجمالي، وفي غيره أيضاً، وهذا ما حصل معي عندما باشرت قراءتها، بواعية المحايد الموضوعي، فلم أشعر إلاّ وقد سحبتني نصوصها، التي تمتلك هذه الخاصية من الجذب على نحو آسر.
ولا مِرية، في أن الكاتب الأدبي الناجح هو ذاك الذي ينتج عنصراً محبوباً، خلاباً، جذّاباً، ويبثّه في النص المكتوب . فمِن كثافة الجرعة الوجدانية تنبع القيمة والجودة والأهمية «وما من حقيقة في هذه الدنيا أعلى من الوجدان، الذي هو أساس الذات، ومركزها، وإنْ على نحوٍ اغترابي مرير. الوجدان، الذي هو ينبوع الفن والأدب، والصوفية، والفلسفة الذاتية، ورعشته هي أسمى القيم ، ولعلّ النص الأدبي الجيد، المنبثق من بؤرة الوجدان أن يخلق رعشات وجدانية صادقة وحميمة ، وإلاّ، فإنه لا قيمة له ».
يمضي السرد عند الأديبة ملك ثرّاً، محتشداً بالتنوع، وهو يتطوّف في غابةٍ زاخرةٍ بالمناخات، والطبائع الفردية، والتراكيب الإجتماعية، والصعود، والهبوط والتوتر، والإستواء، وبكلّ ما يجعل الحياة البشرية على ما هي عليه من ثراء مُدهش، في مختلف المساحات، وعلى مختلف المستويات .
وسط صمتٍ ملوّثٍ، وضجيجٍ أخرق، في خضمٍّ بشري، هادرٍ، لجبٍ، تقف ملك، وتغطّ قلمها وهي تسلّط كاميراتها العملاقة من علٍ، كمرآةٍ لعصرها، وتسجل بإيقاع سريع لا نزق فيه،ونبض هادر، يمور بخفق وجيب البشر،أمواجٌ متلاحقة، متراطمة، تمور بنبض عصر سريع، متبدّل، بحيث جسدت نصوصها مقولة « الكتابة هي الحياة «
تناولت موضوعاتها ما هو شائك، وعرٌ، مع أنها لا تعدو رصد ممكنات الحياة بحدّها المقبول، لا بأحلامها العالية، المستحيلة. لقد سارت بقلمها في طريق الحياة وسط الألغام، بسلاسةٍ، وسلامةٍ، ودُربةٍ، وحرص، وهي ترصد أهمّ إشكاليات الإنسان، ومعاناته كفرد وكمجتمع . والسؤال هو: كيف كتبت عن العادي، اليومي، المعاش، ومع ذلك انتزعت الدهشة؟! ذلك، لأنها كتبت بصدق وعفوية وحرارة عالية أسبغت على نصوصها عامل الجذب، لمتابعتها بمتعة حتى النهاية .
بين انتقالها من نص إلى نص، ومن مشهد إلى آخر، ومن جملة إلى جملة، ومن قضية إلى قضية، كانت النزعة الشاعرية تقودها، والرغبة في الإصلاح، عن طريق تسليط الضوء على الممجوج، والقامع، والكابح، والمظلم، والفاسد، والمُزيّف، وهي تحمل مبضعاً تشريحياً محترفاً، تحاول أن تستأصل أورام هذا الواقع الذي نعاني منه، أفراداً ومجتمعات .
ولأن شؤونها وشجونها هي شؤون وشجون الإنسان على الأرض، فإنها تُدار بلغة أهل الأرض، لا بالفذلكة اللغوية الفارغة، ولا بالنصوص المهوّمة في فضاء، بلا أرض، ولا سماء، ولا وجهة، إن النص الإنساني متحرك في أرض الإنسان وواقعه، ويُخاطب الإنسان وواقعه .
لا يمكن الحديث عن نصوص ملك بتجاوز ثنائية الإنسان – الزمان المكان، فكلاهما متلازمان من جوانب عديدة، كالمرايا المتقابلة، تعكس إحداها الأخرى، لذا فالحديث عن نصوصها يأخذ أهميته الأدبية والإنسانية من خلال إطلالتها على حقبة النصف الثاني من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحالي، وما حفلت به هذه المرحلة التاريخية من تغيرات على صعيد المجتمع، والفرد، المنتمي إلى الطبقة الوسطى، وإن كان الشيء الكثير، ممّا يجب أن يقال عن هذه المرحلة، وعن هذه الطبقة الفاعلة لم يُقَل بعد، خصوصاً ما يتعلق بالمرأة . ولأن الواقع لا يترك فرصة سوى لكلمات قليلة، وأخيرة، وغالباً ما تكون متلعثمة، أو خائفة، وتقتضي جهداً لتوضيحها. وقد قدّر للأديبة ملك أن تعايش تلك الفترة النيّرة بإرهاصات النهوض، والحزينة بمآلات الانكسار. الفترة التي وقعت فيها أحداث كثيرة، وكبيرة في زمن مخاضات كبرى، حيث حاول المجتمع العربي، والمرأة في لبّه، أن يحشد قواه، ويجمع نفسه لنزال كبير، وربما أخير، من أجل انتزاع حق الحرية، والحياة، والوعي، بعد أن كانت قرون الظلم، والظلام، والظلامية قد استنزفت القسم الأكبر من قواه، في عمليات الترويض والتهجين، ولم يبق سوى قلة من ذوي النفوس المطهمة، الحالمة، التي بقيت متحفّزة، ناهضة، صوب ضوئها.
ما إن فتحت الأديبة عينيها على الحياة المستذئبة، حتى اصطدمت بالدويّ المرعب لأشلاء الأحلام المتساقطة من مقصلة الواقع الكوني، لتمتليء ذاكرتها بقصص الضحايا التي زرعت مكانها القصصي بجثثها الرمزية والحقيقية ، سواء في بلدها، أو في المهاجر المؤقتة في بلاد النفط والمال.
بين الانغراس والاقتلاع، بين وطن الولادة والمهجر، بين الاغتراب في وطن الذات، والتغرّب في وطن الآخر، تتحرك نصوصها . هكذا وجدت نفسها ممتزجة بالجموع، حيث أدركت بحدس المرأة، ونبوءة الشاعر، ورهافة الأديب، مهتديةً ببوصلة آلامها ما تريد هذه الجموع، وما يجب عليها أن تفعل، بعيداً عن التبشير، وقد عبّرت عن ذلك فنياً، بلغة شفافة، سهلة، ممتنعة . لم تتلعثم، ولم تتلطّ خلف المبهم، لإخفاء العجز عن القول المبين، كل ذلك، دون الوقوع بالمباشرة الساذجة، أو الطرح الأيديولوجي الفج، بل رصدت بمنظارها المكبّر إيقاعات الحياة المتغيرة، بتسارع مربك، فامتزجت قصصها بالواقع،واستنطقت شخصياتها، والمكان والزمان ما تريد أن تقول، بأسلوبها، ذي الإيقاع العالي، والنبض السريع .
غادة اليوسف