في زمن الطفولة كان في القرية التي أُجبرْنا على مغادرتها، وكان في ذلك الكثير من الخير، كان شاب فيه من الإعاقة أنّ إحدى رجليه بالكاد يستطيع الاستناد إليها، والثانية ثلاثة أرباع العطب فيها، ويسير معتمدا على عصا، يحملها بكلتا يديه، ويستند عليها عرْضيّاً، وعينه اليمنى مغطاة ببياض أصابها فهي عمياء، وعينه الثانية بالكاد يستطيع التمييز فيها، فقد من أسنانه الأماميّة الضواحك والنّابين، فهو حين يتكلّم أو يضحك تبدو تلك الفجوة في فمه، ورغم ذلك فقد كان يحضر دائما في أوساط أقرانه من الأصحّاء، غير عابئ بما فيه ويعزف لهم على الزّمر ( المجوز)، ويُساهم في عمل البيدر أيام البيادر.
في ثمانينيات القرن الماضي، إنْ لم تخنّي الذاكرة، تعرّض أحد أبناء عمي لشفرات تراكتور صغير، أصابت رجليه الاثنتين، وخلّفت جراحا عميقة، وضياع أكثر من عشرين سنتيميترا من عظم الظّنبوب، وتهتّك رَبْلة القسم الأسفل من السّاق تهتّكاً كلّيا، وبقي لزمن في المشفى الوطنيّ بحمص، يُشرف عليه الدكتور المرحوم يوسف ماضي، وحين أمكن نقله إلى مشفى المجتهد نقلناه بسيّارة صحيّة، وهناك، لم يجد طبيب الجلد طريقة للمّ ما بقي في إحدى رجليه من لحم إلاّ أن يأخذ من جسمه جلداً ليطعّم له فيه، وقام بالعمليّة، وهو شبه يائس، وكانت محاولة لابدّ منها، وكان أن نجح التّطعيم، فاستغرب الطبيب، وقال احتمال ذلك ما كان يتعدّى خمسة بالمائة، أمّا طبيب العظميّة فقد اقترح عليه بتر الرّجل، فرفض ابن عمّي، وكان ثمّة بقية لا تتجاوز السنتيمترين من عظم الظّنبوب، من الجهة السفلى، فسأل المُصاب الطبيب:» يا دكتور، هل هناك أمل أن ينمو هذا العظم؟، فقال له: هذا يحتاج إلى معجزة، وحدّ علمي أنّه لم يعد في عصرنا معجزات، والمُفاجئ أنّ هذا العظم بدأ ينمو بحسب ما بيّنت الصور، وحين راجعنا الطبيب ذاته: وقف مستغربا، وقال للمريض هل هذه رجلك؟!! فأجابه مداعبا : لا، هذه رجل ابن جيراننا، أنظر إلى الاسياخ المركبّة، أليست من وضع يدك»؟ وتابع يسأل الطبيب : ماذا أفعل؟ قال لا أعرف، ولكنْ حافظ على هذا العظم النّامي من أن يُصاب بسوء، وباختصار نما العظم، واتّصل باقتراح طبيب آخر، وهو الآن، بحمد الله يستطيع المشي دون أيّ عكّازة، لقد صبر على ذلك عشر سنوات كانت سنوات صعبة، ولكنّ النتيجة كانت أكبر ممّا كان متوقّعاً علميّا.
بعد سنتين من إصابة ابن عمي المذكور، التقيت مصادفة بالدكتور المرحوم يوسف ماضي، وتحدّثنا في أمور عدّة، ولم يسألني عن حال مريضه، قلت له: لم تسألني عن مريضك؟ قال: ولماذا أسألك ؟!! هذا رجل، بحسب ما رأيت منه، روحه المعنويّة على درجة نادرة من الرّوعة، بينما كان في الغرفة المجاورة لغرفته في المشفى رجل آخر أصيب بكسر بسيط في الفخذ، فانهارت الروح المعنويّة عنده، فمات بعد أيام.
قريب من حيّنا رجل يتعيّش عبر عربته الخشبيّة، التي يحمّلها بحسب المواسم، ففي مواسم الفول الفول، وفي مواسم البطاطا البطاطا، وهكذا، تشكّى من ضعف ما ، وذهب للطبيب، وبعد التحاليل، والتّدقيق أنبأوه أنّ لديه كُتلة خبيثة، فتلقّى الأمر بكلّ برود، وظلّ يتعيّش على عربته، مرّ به أحد أصدقائه في موسم الجبس، وقد أترع عربته منها، وسأله: سمعت أنّك مريض، فضحك وقال: هكذا يقول الأطبّاء»، ولمّا سأله عن تشخيص مرضه قال : يقولون إنّه سرطان، فنقز صاحبه، وسأله : ألا تتداوى»؟!! قال له: الله وحده هو الشافي، والموت والحياة بيد ربّ العالمين»، ودفع عربته أمامه وهو ينادي : يا جبس .. يا جبس»، وقد عاش بعدها قرابة عشرين عاماً،
في فلسفات بلدان ما نسمّيه الشرق الأقصى، نظريّة تقول إنّ المرض يبدأ أوّل ما يبدأ في النّفس، فإنْ انتصرتْ عليه غاب، وإنْ لم تنتصر ظهر في الجسم، عافانا الله وإياكم …
عبد الكريم النّاعم