تدخل المجموعة القصصية «تصفيق مالح «, أدب الحرب من بابه العالي ملتزمة جهة الخلاص والأمل لتشير إلى الإرهاب والفساد على حد سواء ,لمؤلفها الدكتور أحمد يزبك صادرة في عام 2020 ,حيث استطاع الكاتب أن يحقق الجمالية الفنية من قلب الوجع النامي على وجوه الشخصيات التي تعيش مأساة الحرب وما بعدها,وهذا هو بيت القصيد في تحقيق المتعة والفائدة معاً ,من الكوميديا السوداء مستخدماً اللغة الشعرية في أرقى صورها .فالشعرية كما يقول عالم اللسانيات رومان ياكبسون :»تهتم الشعرية بالمعنى الواسع للكلمة بالوظيفة الشعرية ,لا في الشعر فحسب»1.ومن المعروف أن رومان ياكبسون درس الشروط والقواعد التي تجعل من نصٍ ما نصاً أدبياً, فكان من أهم رواد المدرسة الشكلية الروسية التي ألهمت الكثير من النقاد الحديث عن النظرية الشعرية في تصنيف العمل الأدبي من هنا ندخل عوالم المجموعة القصصية «تصفيق مالح « ذات السرد الشعري الطافح بالسخرية ولنبدأ بالعنوان :تصفيق مالح « الذي يحمل طاقة شعرية كبيرة ,عدا عن تراسل الحواس فالمعلوم أن التصفيق يُدرك بالسمع ولكن القاص يجعلنا ندركه بالتذوق, وهذا لا يتم إلا بقلم شاعر ينظر إلى المسلمات بعين حادة جداً دون الاكتراث بتدوير الزوايا .وهذا العنوان هو لقصة ضمن ثنايا الكتاب اختاره الكاتب ليكون عنواناً للمجموعة بكلّيتها,وهو سلوك تقليدي عند الكثير من الأدباء.وقد اصطفاها الكاتب من بين قصص المجموعة ال26 قصة ليعطيها هذا الألق ربما لينبهنا بان التصفيق يتفشى كسلوك تقليدي أعمى سهل الأداء لا يحتاج إعمالاً للعقل ويؤدي إلى النجاة, وقد ختم قصته تلك بان الأمهات في البيوت طبخن التصفيق للتلاميذ العائدين من تعب التصفيق وهذا يشير إلى طريقة التعليم المعتمدة على التلقيم والتلقين دون العصف الذهني وغرس حب البحث والاكتشاف عند التلاميذ ,والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ,لماذا أطلق الكاتب على التصفيق صفة الملوحة وهل هناك تصفيق حلو المذاق وهل يتغير مدلول القصة فيما لو عنونها ب « تصفيق مرّ» مثلاً ,إذن العنوان هنا بقدر ما هو شاعري بقدر ما يثير أسئلة القارئ ,خاصة وان مصطلح التصفيق انتشر بكثرة في الأعمال الأدبية لانتقاد التصفيق كسلوك غريزي يتفشى بالتقليد الأعمى .
وبالعودة للعناوين الشعرية التي طغت على قصص المجموعة ومنها على سبيل المثال لا الحصر :حقل أحلام , شاعر عقاري, حطب أنثوي ,وغيرها الكثير مما يجعلنا متأكدين من حقيقة أن القاص أحمد يزبك بدأ حياته الأدبية شاعراً .
هوس ما بعد الحرب
يبدو المؤلف مهموماً حتى النخاع بمفرزات ما بعد الحرب اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً منتقداً كل ما طفا على السطح من سلوكيات نافرة رمت منظومة الأخلاق المتعارف عليها في جب عميق ففي قصة «حلم وسط ..طقس سادة» تضطر بطلة القصة لإغلاق مقهى القراءة والمطالعة الذي كان مشروع حياتها وكرست لافتتاحه كل ما جنته من عملها بالتعليم خلال عمرها, ولكن الحرب جعلته خالياً من الزبائن فلا أحد يريد المطالعة والقراءة فلم يدخله منذ زمن سوى شلة مراهقة بحثوا عن كتب تحكي عن أسرار نجاح العلاقات الحميمة ,كما دخلت بعضهن وسألن عن كتب الطبخ والأبراج ثم تلاشى مقهى القراءة بعد سقوط قذيفة هاون جعلت كل الكتب رماداً ,مما اضطر البطلة لإغلاق المقهى والعودة إلى الكتابة والمطالعة عن طريق العالم الافتراضي ,وقد سخر من الوضع الاقتصادي في إحدى قصص ما بعد الحرب عندما ذكر بأن الراتب كان يكفي مدة لا بأس بها قبل الحرب أما اليوم فالراتب يتلاشى قبل أن يدخل الموظف إلى البيت .
نهايات صادمة
تتميز نهايات معظم قصص «تصفيق مالح» بالمأساة التي زينها خيال الكاتب في محاولة منه لتخفيف وطأتها أو لتخدير المتلقي فهو مثلاً لم يقل في بطل قصة «حقل أحلام «أن كاظم الذي التحق بالحرب بدافع تحرير زوج أخته المخطوف وإعادة شقيقه للعمل بعد أن أغلقت الشركة التي كان يعمل بها أبوابها بسبب العقوبات المفروضة على البلد لم يقل انه مات بل قال بان كاظم بعد انفجر لغم تحته لم يستطع الجلوس أبداً وانه قضى رحلة علاج مأسوية انتهت بتحول كاظم إلى عصفور يطير ولا يحط على غصن أبداً,ومثل هذه النهاية تنطبق على بطل قصة «سعيد إلى حين» الذي ذاق الويلات وهو يحاول ترخيص محل لصنع الحلويات لئلا يكون عالة على أهله بعد أن أفقدته الحرب ساقه ولكنه أيضا اضطر لإغلاق المحل بعد أن اكتشف أم محال بيع القشدة تغشها بكل ما هو غير صحي وانتهت القصة بان أغلق سعيد عينيه فقال في ص 64:»اشتاق سعيد لقدمه وخطيبته …خلع القدم الصناعية في عزلته ,وتمنى لو يستبدلها بجناحين من أغصان زيتونة قديمة تشبه وجه جدّه ,فيطير بهما إلى جبل أخضر , أغمض سعيد عينيه فرأى طفلاً يركض بأقصى سرعته فوق الندى ,وصفحات العشب حتى ينال منه التعب فيضحك ويستلقي على غيمة بيضاء مهاجرة».
ختاماً
لطالما تساءلت عن الصقيع والرمادية التي تجعل كاتباً ما يضيِّع رواية بأكملها في الحديث عن موضوعات مطروقة كقصص الحب الناجحة أو الفاشلة وكانه لا يعيش في مجتمع يغلي بالحرب والأمراض الفكرية حتى وصلتني مجموعة الأديب احمد يزبك «تصفيق مالح « التي خطها الكاتب منذ أول كلمة حتى الخاتمة بقلبه وضميره لا بلوحة المفاتيح فجاءت لغته السردية رشيقة شاعرية موجعة خالية من الترهل و الحكي المجاني الممل ,رصد فيها انعكاس الحرب على الجميع من نابشي القمامة حتى أصحاب النياشين مستعيراً من مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من المفردات حتى أن القارئ يتناول المجموعة كاملة دفعة واحدة وكأنه جلس يتابع المنشورات على الفيس بوك … المجموعة تستحق الكثير لا يمكن لي أن أحيط بجوانبها كافة في هذه العجالة فهي جديرة ليس فقط بمكتبتنا بل بقلوبنا…وتبشر بولادة كاتب حقيقي فيه من وجع الماغوط وروحه .
من الجدير بالذكر أن المؤلف أحمد يزبك من مواليد 1980 وهذه هي المجموعة القصصية الأولى له وهو طبيب أسنان,وسيقيم حفل توقيع لمجموعته القصصية مساء الخميس القادم 5/2/2020 في قاعة سامي الدروبي الساعة الخامسة مساء .
ميمونة العلي