تماهي الشعرية والدفق الفكري في مجموعة «يأتي من جهة الشوق» للأديب أحمد حسين حميدان

لاريب في أن القصيدة أياً كان نوعها عندما تثير الدهشة، وتلتقط الصورة البكر، وتنسج لغتها المتميزة والمتفردة، دون التخلي عن الإيقاعات الداخلية، ودون التفلت من حركة الفكرة وحركة التعبير، فإنها تبلغ مصاف الإبداع مع التأكيد بأن لكل تجربة شعرية ألقها الخاص الذي بلغت بموجبه جملة من العناصر التي أهلت قصيدتها إلى هذاالمقام ومن خلال مقاربتنا لتجربة أحمد حسين حميدان الشعرية بدت لنا بفضائها الإبداعي عبر قصائد مجموعته (يأتي من جهة الشوق) أكثر انشغالاً بالإيغال في مساحات واسعة من فضاءات الحس الضافي والبحث اللائب عن الأنا، وعن الآخر في وجود واقعي تارة ومفترض وتخييلي تارة أخرى عبر مزيج لوني ليس مستقراً، فالقصيدة لديه لوحة يمكن أن يراها المتلقي من جوانب مختلفة، وبالتالي يستطيع تفسيرها حسب مايصل إليه منها من هذه الأنا الشاكية البعد والفراق عن الآخر الذي تحبه مرددة في أولى القصائد:
(ترحلين أيتها المليكة
وكحل القصيدة في عينيكِ
يئن من الهجر وصد المنافي).
إن العناصر التعبيرية هنا ترفض الانفصال عن المشاعر، وخاصية القصيدة تراوغ لتقنع المتلقي بالعديد من المرموزات، فمن التي ترحل؟ أهي العشيقة أم الأم أم الأخت أم البنت؟…وكذلك الحال فيما يتعلق بكحل القصيدة الذي يئن في عيني الحبيبة فهو سيدفع إلى التساؤل أي كحل يكون؟ وأية قصيدة تلائم صاحبته والواقع ظلل إهابها بالهجر وقوافيها بالمنافي؟.. إن هذا المقطع الشعري الذي يرسم صورة جلية لما يعتمل في نفس الشاعر يتجاوز التقليدي إلى ابتكارات تعبيرية نجحت في تسديد الهدف والوصول إلى عمق مشاعر المتلقي بتراكيب يأتي الصوت منها مناجياً الحبيب الغائب:
(وتسافرين صوب حدود البحر
ترتديكِ الأغنيات
وأرحل أنا بين ضفاف الحلم
تجللني الأمنيات)
والسفر هنا ليس إلى عمق البحر، بل إلى حدوده لأن الشاعر يصر على اللقاء، ولعل أغنية واحدة تؤثر أو تأتي أُكلها، فهي تسافر وهو يرحل، وما بينهما غياب يلفه الحلم وتجلله الأمنيات الآتية في مناخات إبداعية خصبة واستحضارات تقوم على مآلات البعد والنأي باعتبار أن محاولات الشعر تسعى دائماً للقبض على الحقيقة,حتى ولو عبر المجاز وتبدو غائمة هنا بسبب الواقع الموضوعي المر، وبسبب الرحيل القسري وغير القسري أيضاً الأمر الذي يُبقي المعاناة الإنسانية ومكابداتها تأخذ أبعادها المفتوحة على الحلم ضمن جماليات اللغة الشعرية التي جاء عليها في مجموعته أحمد حسين حميدان وعبر قصيدته عصفور الكلام الماثل في طيرانه كصورة قادمة من الرمز والمجاز يقول:
(بعيداً.. إلى دمه،
طار عصفور الكلام
وحده الخريف يسري في العروق
في حديقة الحلم يعوي
يهز إليه بأوراق الأماني
فيساقط ورد النشيد
ويطير بعيداً عصفور الكلام
بعيداً بعيداً ..قريباً قريباً).
قد يلمح القارئ شيئاً من المباشرة في هذا المقطع الشعري، لكن في الحقيقة أن الشاعر استخدم أسلوب المفارقة اللفظية ليمرر ألواناً من طيف الحقيقة في سياقات التكرار اللفظي والأنساق الشعرية القصيرة، من خلال البعد والقرب، ومن خلال الطيران واقتراب الصبح، وهز الأغصان، وحركة تساقط ورق النشيد.. إنه تنشيط ذهني حركي يهدف إلى محاورة معاناة الشاعر عبر تجربة لا تكتفي بالإحاطة بالواقع وإنما تتطلع إلى أفق شعري أوسع عبر الشهادة المأمولة وفي سياق ذلك تتحول اللغة الشعرية من لغة الترتيب حسب المقتضى، إلى لغة الموقف التي تصنع الدهشة والتفكير كما هي الصورة المعبرة عن عطالة الواقع واعتلال الحياة التي كشف الشاعر حالتها السكونية في قصيدة ماقبل المشهد الأخير
عبر هذا السياق يحاول الشاعر أن يفرغ فيوضات قلبه، وأن يبرهن عن تأزمات قادمة، لكنه في الوقت ذاته يبرق حول بؤرة مركزية نقلتها معرفة مكثفة بما سيحدث.. إنها دعوة للمتلقي كي يؤازره ودعوة في الضفة الأخرى لكي يرتاح قلبه، وفي الحالتين هناك سيرة حياتية تحتاج إلى التأمل والتفكير ولا تحتمل التأجيل ويؤكد ذلك بالقول:
(علنا من غصن الحلم
نقطف وردة لقيا
قبل ان تخلع الأعوام أيامنا
فوق أرصفة الغياب
تمهلي أيتها المراكب
وحدها وردة النار
على غصن الوصال).
ضمن هذا السياق تتسم الجملة الشعرية في قصيدة (وردة النار) بالكآبة، وتتأسس البنية الشعرية في سياقها على حافة التفكير بالآتي، فلا الحلم يأتي ولا الأعوام تتوقف عن النزيف، ولا المراكب تهدي الصمت بعضاً من وقتها، فالجرح معفر بالقتامة والحلم لا يجد نافذة النور المأمولة.. وفي قصيدة (يأتي من جهة الشوق) التي عنون فيها الشاعر أحمد حسين حميدان مجموعته الشعرية، يقدم لنا بوحاً صادقاً مفعماً بحرارة الوفاء والولاء مخاطباً والده في رحيله الأخير:
(إنهم يسرقون مصابيح وجهك من دمي
يرقصون كلما هبت رياح السموم
لإطفاء الشموع
وأنت هنا وهناك
في كل جهات الشوق تبدو
كلما خرجت من رمش الفجر أراك
تأتي من جهة الشوق).
ضمن هذه الفحوى الشعري بلاغة ناهضة عبر التخييل ببنية تعبيرية تقوم على التضاد المتناغم بين اللوعة والشوق وبين الأمل والألم الذي مضى من خلاله الشاعر بتلقائية، لكن الشاعرية غلفت التلقائية بزهو الموقف وتلك ميزة متفوقة، لأن الحاجة النفسية تميل إلى التعبير، والإحساس يولد أفكاراً يرغب الشاعر إزاحة الستار عنها، والمشهد يخصبه شعر يرسم المصداقيةعبر تأكيد الشوق الآتي من مشكاة الأحزان التي مزج في عالمها الشاعر أحمد حسين حميدان بين الأمس واليوم ليؤكد دورة الحياة وتعاقب الأزمان وليؤكد أن سين الاستقبال لا تني تجهز نفسها مع كل فجر من أجل موعد آخر وحزن آخر وأمل وألم آخر ويعبر عن ذلك في قوله:
(بعد قليل سيصحو الفجر
ليرى طائر الجسد
قد أفلت من قفص الوهم
وحبال الخوف تشده
عن ذرا الجبال
كلما هَمّ إليها
ليبقى عند السفح
وفيه تصعد الأحلام
إلى الأعلى.. إلى الأعلى).
لنا أن نلحظ هنا كيف تطفو الذات الشعرية على سطح الروح وهي تعبر عن ذات تتلقى الصدمة تلو الصدمة، ولا تني تغامر على الرغم من تشابكات الواقع ومفازاته.. والجميل في شعر حميدان أنه يستحضر الفكرة، ثم يذوبها في البعد الإنساني واستعطافاته ومخزوناته وأشكال المصائر المتعرجة فيه، وبعد ذلك يعلن تفاؤله وإصراره على الصعود إلى الأعلى في سعي منه إلى التقاط الفرح بنبرة خارجية تغذي الجرس الداخلي وهو يلائم التأثيرات الملحّة التي علقت في نفس الشاعر وانعكست على النص بمدلولات وإيحاءات لتؤكد ما في نفسه من رغبات في السفر إلى البعيد ومن هنا يتأكد لنا أن الشاعر أحمد حسين حميدان لا يجد إلا الشعر الملاذ الوحيد للتعبير بإحساس داخلي متدفق بمشاعر النفس وإشراقاتها ومعاناتها التي لا تنتهي ..
د. هيثم يحيى الخواجة

المزيد...
آخر الأخبار