سأظلّ في رحاب ذلك العام الذي أمضيتُه في الجزائر، أكتب عنها وبيني وبينها قرابة خمسة وأربعين عاماَ،مدهشة هذه السرعة في التذكّر، وبظنّي أنّها تساوي سرعة النّور.
-يبدأ الدوام المدرسي في الساعة الثامنة صباحا، ويستمرّ حتى الساعة الثانية عشرة ظهراً، حيث استراحة الغداء ساعتان، لنعود في الثانية ونستمرّ حتى الساعة السادسة مساء، ولقد لاحظتُ أنّ الطلاّب في المدرسة، في فترة ما بعد الظهر يبدو على بعضهم الخمول، والكسل، وعدم التركيز، وفقدان الانتباه، وعزوتُ ذلك إلى فقدان معظم الطّاقة في فترة ما قبل الظهر، وحين فاتحت مَن هو أقدم منّي في التعليم في الجزائر بهذه الملاحظة ابتسم ابتسامة ذات مغزى وقال:” هنا في الجزائر يتعاطون شيئا اسمه ( الشّمّة) وهو خليط من الزّعوط، والتّبغ، والفلفل، وأنواع البهارات، يُباع في عُلَب خاصّة، فيُعبّئ المتعاطي مقدارا يمسكه بين أصابعه، ويضعه في حَنَكه، فيبدأ الخليط بالتحلّل عبر الريق، وهو الذي يترك ذلك الأثر على الوجه، والعقل، والبدن، ولقد ذكّرني هذا بما سمعتُه عن البدو قديما في سوريّة بعد تعرّفهم على التدخين، فبعضهم كان يضع في حَنَكِه كتلة من الّتبغ، ويتركها تتحلّل، بذات الطريقة، وكانوا يسمّونها” المَضْغة”
-ثمّة أعداد ملحوظة من ” المهابيل” موجودون في معظم المدن الجزائريّة، وحين سألتُ عن هذه الظاهرة قيل لي إنّ معظمهم فقدوا عقولهم على أثر التعذيب الوحشي الذي لاقوه على يد قوات الاحتلال الفرنسي، وبعض ما ذكروه، ربّما ترك أثراً في شخصيّة مدير المدرسة” الفيراني”، فهو هاديء هدوءاً ملحوظاً، مع شيء من التشتّت الذي لا يلمحه إلاّ كلّ مدقّق حسّاس، وحين لمّحتُ إلى ذلك قيل لي إنّ ” الفيراني” كان من مناضلي جبهة التحرير الجزائريّة، وقد ألقيَ القبض عليه وعلى مجموعة من المقاتلين في تلك الجبال، فعذّبهم الفرنسيّون،وأخذوهم إلى مغارة، وأدخلوهم فيها، وسدّوا بابها بالاسمنت المسلّح، ولك أن تتصوّر انتظار الموت خوفا، وجوعا، وظلمةً، وقد تمكّن المحاصرون من حفر نفق بأيديهم، وبالحجارة حتى نقبوا الجبل من الجهة الثانية، وخرجوا، فمات مَن مات وعاش مَن ظلّ.
– في الجزائر ، في تلك الأيام كان ثمّة صرامة في العلاقات الاجتماعيّة، لاسيّما في مناطق القبايل/ الأمازيغ، فهم لا يتزاورون في بيوتهم، وحين يتّفق اثنان على الّلقاء فإنّهما يتواعدان في المقهى، حتى خطوبة شاب على فتاة تتمّ في المقهى، ولا يتجرّأ واحد منهم على قرع باب أيّ كان، مهما كانت حاجته إليه فذلك أحد العيوب، رووا أنّ أخاً اضطرّ لأن يضع خبراً لأخيه بأنه في حاجة إليه، ولمّا لم يجد وسيلة ذهب إلى بيت أخيه وقرعه، وقال لزوجته من خارج الباب أنّه مضطرّ لأن يخبر أخاه بأنه يريد أن يراه لأمر ما، وحين جاء الأخ وأخبرته زوجته بذلك، ذهب الأخ بحالة من الغضب الشديد إلى المقهى، وفور رؤية أخيه قال له بتحدّ صارخ:” تقرع الباب؟!! مرة أخرى إنْ فعلتَها نقتلك”؟!!
لقد ساهم المُعارون الشرقيّون في كسر شيء من ذلك الجليد، فصاروا يتبادلون الزيارات مع بعض العائلات، وكان هذا في المدن الكبرى، لا في القّرى المُسماة ” دِشْراتْ”
-في المناطق التي يقلّ فيها الماء فإنّ ذلك يترك آثاره في مسألة الاستحمام، ولقد حُدِّثتُ عن بعض أبناء الصحراء الجزائريّة، الذين يرتدون اللباس التقليدي للجزائر، ” البُرنس” و” العمامة”، وظلّ ذلك في حدود الكلام، إلى أن جاء يوم سافرتُ فيه إلى مدينة ” سطيف”، وصادف أن جلس بجانبي واحد من هؤلاء، وكان يضع ” الشمّة” في حنكه، ولم أعد أعي كيف سوف تنتهي هذه الرحلة، فقد كانت رائحته تشبه إلى حدّ كبير رائحة الجيفة، وبدأت أشعر بآلام في معدتي، وبإحساس من الاقياء إلى أن يسّر الله وصولنا، فكنت كمن خرج من دوّامة لايعرف كيف يتخلّص منها.
لا أدري مقدار التحوّلات التي حدثت بعد ذلك الزمن، وهي ولا شكّ كائنة بحكم منطق الحياة، حفظ الله الجزائر وحماها من كلّ ما يُحاك لها من سوء…
عبد الكريم النّاعم