ثمة ظواهر تطفو على سطح مجتمعنا بميادينه المختلفة كما تطفو بقع النفط على سطح الماء بعد تسربها من الناقلة ، ولا تلبث الأمواج أن تقذفها إلى رمال الشاطئ . ومن هذه المظاهر: المغالاة أو الغلو أو الغلواء ، وكلها تعني المبالغة أو تجاوز الحدود ، ولعل دافعي إلى كتابة هذه التحية المغالاة والغلو والغلواء في الميدان الثقافي أولاً ، هذه المغالاة التي تعكس خواءً إبداعياً بل ثقافياً ومنها إطلاق الألقاب الرنانة والصفات الطنانة على من يعتلي صهوات المنابر ، وهي ليست صهوات خيل أصيلة . فهذه أميرة القوافي وتلك واسطة عقد الشاعرات ، وهذي خنساء العصر الحديث ، وهذا أمير الشعراء وذلك سيد القوافي وذاك شيخ القصة وإمام الرواية وبابا المقالة والخاطرة .
وأذكر هنا أن الشاعر الرائع نزار قباني كتب يوماً تعليقاً على هذه الألقاب فقال:
إن إمارة الشعر أكبر كذبة انطلت على أحمد شوقي لأنه لا أمير على الشعر إلا الشعر نفسه .
وأذكر أن صديقاً ظريفاً من أصدقائنا كان يتساءل عندما يذكر أمامه ..الروائي الكبير : هل تجاوز التسعين من عمره ؟!!
فأتمنى على من حمل القلم ولحقت به مهنة الكتابة وانخرط في العمل الثقافي ألا يحاول ستر عيوب الفعل الثقافي بإطلاق الألقاب والمبالغة فيها ، فهذا الفعل يؤكد حالة من حالات الخواء كما يلحق الضرر بمن يطلق عليه هذا اللقب أو ذاك ، فإذا كنا نطلق لقب : أمير القوافي على من ما زال يتلمس خطا الإبداع الشعري ويحاول أن يمتلك أدواته ، فماذا يترك له ليتطلع إليه في مستقبله إذا كان بضربة واحدة أصبح أميراً للقوافي؟!! وفي الاتجاه المعاكس نجد المغالاة في الاستخفاف بقامات شامخة في حياتنا الثقافية ، فكل من قرأ الملف الثقافي الذي أعدته مجلة المعرفة السورية عن الأديب حنا مينة قال : إنه ملف – رفع عتب– ولا تتناسب كلمة السيد وزير الثقافة الأستاذ محمد الأحمد القيمة الموجزة عن حنا مينة مع ضآلة مواد الملف وهشاشتها ، ومن حق المعرفة وواجبها أن تستكتب الكثيرين من أدباء الوطن العربي في ملف يتناول أديباً روائياً علماً في عالم الرواية ، وما نراه في عالم الثقافة نراه في عالم التربية والتعليم ، فهذا المدرس أسطورة الفيزياء ، وذلك ملك الكيمياء ، وهذه أميرة اللغة العربية بلا منازع ، وتلك ملكة الرياضيات غير المتوّجة ، فأي خواء معرفي وأخلاقي نحاول أن نستره بالألقاب التي نستمدها من صيغ مبالغة اسم الفاعل فنجد فلاناً : علاّمة وذوّاقة وهو جهول وقليل ذوق يحتمي بطاولة وظيفته التي يجلس وراءها . ونجد فلاناً : عليماً خبيراً في هندسة الجسور ، بينما الجسر الذي صممه ونفذه توجد عليه إشارتان : واحدة تقاطع خطر ، والثانية ممنوع المرور ، ولن أحدثكم عن المغالاة الاجتماعية فلديكم شواهد كثيرة تطول قائمتها .
د.غسان لافي طعمة