بادىء ذي بدء، فإنّ السياحة الحقيقية في الأغلب الأعمّ من مناطق بلدنا العزيز، تبدأ عادة بشهري تموز وآب من كلّ عام، وربّما قبل ذلك، ثمّ يودّع الأناسِيُّ الموسم السّياحي استعداداً لاستقبال العام الدراسي الجديد، الذي حسب رئاسة مجلس الوزراء، فإنّ المدارس ستشرع أبوابها أمام تلاميذنا وطلابنا من الجنسين، في الثالث عشر من أيلول، وربّما يكون هذا الموعد ثابتاً، أو ربّما يُمدَّد بسبب فيروس “كورونا”، الذي عمّتْ مفاعيله وبصماته العالم برمّته، غرباً وشرقاً، وفي كلّ اتّجاه..
عود على بدء، وعطفاً على عنوان (التحيّة)، فإنّ “نبع كَرْكَر”، يقع في الجهة الشرقية من منطقة “الكفارين” الجميلة، الواقعة إلى الغرب من محافظة حمص، على مبعدة تقارب السبعين كيلو متراً، والقريبة من منطقة (مشتى الحلو).. تلك المنطقة التي تُسمّى “الكفارين”، التي تغوص في بحرٍ لازْورديّ من الخضرة والسّحر والجمال، فإنّ “كَرْكَر” إحدى قرى الكفارين الوادعة، فهناك على حدّ علمي، وحسب منطوق أحد الأشخاص المُعمّرين، وهو واحد من سكّان المنطقة: (كفرون سعادة، كفرون رَفْقة، كفرون بَدْرَة، كفرون حَيْدر، وكفرون كَرْكَر)، والكفارين كلّها تستحمّ منذ زمن سحيق بماء الخُضرة الممتدّة، وتستظلّ بسحر هاتيك الأشجار الوارفة الباسقة، المثمرة وغير المثمرة.. حتى إذا اقترب أحدنا من “نبع كَرْكَر” ليشرب من ذاك الماء العذب السّلسبيل حدّ البرودة اللاذعة، أو ليملأ قنينة فارغة، أو أحد “البدونات”، أو أية آنية أخرى، قصد الشّرب، فإنه واجدٌ من دون أية مبالغة أو تهويل، أنّ الماء المتدفّق من ذاك النّبع الصافي كصفاء قلب أبيض، كأنّه يخرج إليك وهو في حالٍ حُسْنَى من الابتسام والكَرْكَرة والجريان، حتى إنّ خرير الماء المُمَوْسَق، لكأنه عزفٌ خارِقٌ على آلةٍ وتريّة، بِيد موسيقيّ محترف..
- ناوِلْني “البدون” من فضلك، لأملأه لك من هذا الماء الزُّلال، أرى انبهارك بيّناً، وأنت تتملّى جمال المنطقة أمام عينيك، وبيوتها المتربّعة بِخُيلاء على الصّخور، وشلال الشّجر الغزير الممتدّ، وتدفّق هذا النّبع التاريخيّ الأعجوبة..
بتلقائيّة تامّة ناوَلْته “البدون” الفارغ، خَضّه صاحب الروح الشّفيفة، والابتسامة المندّاة مرّة مرّتين، نظّفه ممّا قد علق به من الغبار والقذَى، ملأه حتّى شُفّتِه كما يُقال، والبشاشة الريّانة تستوطن وجهه الحِنطيّ النّضير، الذي خلته بلون النّدى، أو وهْج الرّبيع.. شكرته على مبادرته الطيّبة، التي جاءت عفويّة تماماً، وعلى هذه اللفتة الكريمة الصّادرة عن شخصٍ ليس بيني وبينه أدْنى تعارف سابق..
قال بِلَكْنَةٍ حَوَت السّماحة كلّها: أنا ابن كفرون “كَرْكَر”، أي ابن هذه المنطقة الجميلة كما ترى، نحبّ الأضياف القادمين من أية جهة جاؤوا، وقد تناولتُ منك “البدون”، لأنّ نزولك إلى الأسفل قد يسبّب لك بعض المتاعب، أمّا نحن فقد تعوّدنا من صغر أعمارنا على الغوص داخل هذا النّبع الدفّاق، وحسب أجدادنا والآباء، فإنّ هذا النّبع البارد العذب، لا ينقطع جريان مائه، لا صيفاً ولا شتاءً، ولا في أيّ يوم من أيام السنة.
حين تلقّفت منه زجاجة الماء المثلّج، التي كان قد ملأها توّاً قبل أن يملأ “البدون”، قال بلغة الواثق:
- اشرب من ماء هذا النّبع البارد، وبالتّأكيد ستخبر ذويك وأصحابك والجيران عن عذوبة هذا الماء، وصفاء هذا (النّهر الخالد)، وستدعوهم لزيارة واحدة من مناطق بلدنا الجميل، الذي تعجّ أراضيه بالكثير الجمّ من مناطق الاصطياف والسياحة، التي تخلّدها الذاكرة، وتعشقها الأعين والأسماع..
- بكلّ تأكيد، فالمنطقة تخلب الألباب من دون مجاملة، ومَنْ يزرْها، فهو واجدٌ فيها غايته، وهناءة روحه..
ثمّ افترقنا..
حاشية: الوصول إلى “نبع كَركَر”، وإلى منطقة الكفارين، وإلى مشتى الحلو عموماً، دونها بعض العراقيل والإزعاجات، منها على سبيل التّمثيل: الطريق داخل منطقة “شين” ذاتها مملوء بالحُفر الإسفلتيّة، التي تعكّر أمزجة السائقين والسائحين وأصحاب الدراجات، فإذا وصلت إلى منطقة “ضهر القصير”، قبل وصولك إلى ناحية “برشين”، من هناك تبدأ الإزعاجات أيضاً بسبب كثرة الحُفر العميقة، وبقع الإسفلت المُفتّت، ربّما بفعل الأمطار والثلوج الغزيرة بهاتيك المناطق.. ثمّ هل نتحدث عن “صناعة السّياحة” ببلدنا، وندعو الآخرين لزيارة مناطقنا السياحية، وليس هناك من ترقيعات إسفلتية جادّة لتلك الحفريات، التي في كلّ موسم سياحي، تزداد اتساعاً وتشققاً وإزعاجاً؛ فهل يولي المسؤولون عن تعبيد الطرقات المؤدية إلى مناطقنا السياحية جلّ اهتمامهم وإخلاصهم، لرأب هذه التصدّعات في طرقنا العامّة، (خاصّة بين منطقتي “شين” و”برشين”)؟
وجيه حسن