ونحن في فصل الشتاء، والبَرْد سبب كلّ علّة، كما هو معروف، سأحدّثكم عن وسائل التّدفئة التي مرّت في حياتي، لاسيّما وانّ الأجيال الطّالعة لا تعرف شيئا عنها، بل هي تُواجه معطيات جديدة في ظلّ غلاء المازوت وقلته ، إلاّ على الذين يملكون من المال ما يستطيعون به أن يشتروا هذه المادّة دون أن يشعروا بأيّ عائق، ولا يُغيّر من هذه الحقيقة أنّهم شفطوا أموالهم من جيوبنا، على اختلاف مواقعهم، والحال كما تعرفون أنّ توزيع المازوت المدعوم صار مسألة موجودة على الورق لا غير، وفي التصريحات الاعلاميّة الفارغة من أيّ مضمون، وليس ثمّة شيء خفيّ بل كلّه رقص فوق الطّاولة،
في الطفولة البعيدة، وفي تلك الأرياف المتشابهة، كانت وسيلة التّدفئة المعروفة تعتمد على ” الجّلَّة”، وتُحضَّر من روْث الأبقار، يُجمع الرّوث وتَدوسه النّسوة بأرجلهنّ حافيات ليشكّل خلطة مُتجانسة، وبعد ذلك يجعلون منه أقراصا متقاربة في الحجم، ويُلصق على جدران المنازل، والحواكير، ويُفضّل أن يكون مقابلا للشمس لتساهم في تجفيفه، وبعد أن يجفّ يكون صالحا كوقيد، فبه تُوقَد التنانير للخبز، والمواقد للطهي، وكان هذا يمتد على مساحة الأراضي السوريّة التي لا أشجار ولا أحراش فيها، فحيث توجد الأشجار يؤخَذ منها الحطب، وقريباً من معظم البيوت يُبنى بناء مخروطيّ الشّكل، بطريقة بناء القباب الطينيّة التي اندثرت، ولم يبق منها شاهد إلاّ قرية” هلال” في البادية الممتدّة بين ” سلميّة” و”الرّقّة”، وقد ظهرتْ صورُها في مسلسل” حارس القدس”، .. هذا البناء القريب من البيت يرتفع مخروطيّاً بارتفاع مترين تقريباً، وفيه يُخزَن وقيد ” الجلّة”، ويسمّونها” الشّونة”، إذ لابدّ من مكان تُحفظ فيه ” قرافيش الجلّة”، مفردُها ” قَرْفوش”، للقطعة الواحدة،
تأمين وقود ” الجلّة” من مهمّة المرأة في ذلك الزمن، ولم يكن تأمينها سهلا، فقد كانت النّسوة يذهبْن بعيداً في البراري حيث ترتاح بعض الأبقار فتترك روْثها، حتى أنّ بعض النّسوة، في ذلك الزمن، كنّ يأتين من ” الرستن” على بعد ثمانية كيلو مترات باحثات عن هذا الوقيد، وللمساعدة في سرعة اشتعاله كان يُرشّ عليه بعض ” الكاز” اختصارا للزمن، وتحسينا للاشتعال، فتتوقّد جمراً في “التّنّور” للخبز، أو في “المُوقدة” لطهي الطعام،
أشير هنا إلى أنّ الوجبة الأساسيّة في القرى كانت في ذلك الزمن هي وجبة العشاء، حيث يعود الفلاّحون من حقولهم، فتُشاهد أعمدة الدّخان صاعدة من معظم البيوت، وتشمّ رائحة الطعام منتشرة خارج البيت،
من أجل تأمين ” الجلّة” كان ثمّة ما يُسمى ” الضمان”، وهو أن يتّفق صاحب البيت، أو صاحبته مع راعي قطيع البقر في القرية على ” ضمان ” ما يُسمّى ” المَراح”، وهو المكان الذي ترعى فيه الأبقار، وترتاح فيه، حيث يمتلئ بروثها، ويُترك حتى يجفّ في البريّة، فما يتعدّى أحد عليه، ومن ثمّ يُنقل إمّا على ظهور الدواب، معبَّئا في أكياس من ” الخيش”، أو على رؤوس النّسوة، وما زلتُ أذكر أنّ ضمان أحد “المَراحات” كان خمسين قرشا سوريّا،
كانت تُحفّر في ارض البيت الطينيّة حُفرة يسمّونها” النُّقرة” – القاف بدويّة – ويُشْعَل وقيد ” الجلّة” ويتدفأ الموجودون بتقريب أكفّهم من حرارة الجمرات، في بيوت فيها مئات الفراغات التي يتدفّق منها ريح البرْد،
ثمّة مدادّة أخرى تُوقد، ويسمّونها ” القَصْرينة”، وهي عيدان القمح الغليظة الباقية بعد التّذرية، يجمعونها في مكان، وحين يجيء الشتاء يوقدون تحتها في ” النّقْرة” فيمتلئ البيت بدخان كثيف يحجب عنك رؤية مَن يجلس بجانبك، وتمتدّ كثافة الدخان من علوّ ثلاثين سنتيمترا عن الأرض حتى سقف البيت، ويُترك باب الغرفة التي يجلسون فيها مفتوحاً، ويبدأ السّعال، وتدمع العينان، ومن غريب ما كانوا يتداولونه أنّ هذا الدّخان مفيد للعينين، فهو يجلو البصر…
للحديث صلة في زاوية قادمة إن شاء الله..
عبد الكريم النّاعم