نتابع الكلام عن وسائل التّدْفئة أيام زمان كما يقولون، فبعض الحديث عن الدّفء قد يستدرج شيئا من الدفء النفسي الذي نفتقده، إضافة إلى فَقْد التدفئة.
في المدينة، وكنّا قد انتقلْنا من تلك القرية، وتركْنا ” الجلّة” و” القصْرين” وراء جدران الذاكرة كانت وسيلة التدفئة هي ” الكانون”، أو ما يسمّونه “المَنْقَل”، وتختلف المَناقل فهي من صفيح رخيص الثمن في بيوت أمثالنا، أمّا في بيوت الذين لديهم من الثراء ما يكفي ويزيد، فهي مصنوعة من النّحاس، وفيها زخرفات جماليّة تناسب ثمنها، ومنها الصغير والوسط والكبير، وثمّة مَناقل كانت تُصنع من الطين المشوي، وهذا في الأرياف أكثر منه في المدن.
كانت مادّة التدفئة في تلك الأيام، أعني حتى أوائل خمسينات القرن الماضي تقريبا، كانت المادّة هي ” الفحم”،و”الحطب”، وكان لهما خانات مشهورة تُقصَد للشراء منها، كما أنّ مادة الفحم كانت تُباع حتى في البقاليات، وثمّة من كان لا يبيع إلاّ الفحم في محلّه.
الحطب يا أعزّاءنا يحتاج إلى مكان يُوضع فيه، ولذا كانت البيوت العربيّة القديمة، أعني البيوت المرتاحة ماديّا بهذا القدر أو ذاك،..كانت تحتوي على قبْو، أو غرفة خاصّة لتخزين الحطب، ولا سيّما في البيوت التي فيها مدفأة حطب، وهذا ما كان يتوفّر إلاّ لمن يملك قيمة ذلك، أمّا الغالبيّة من الناس فقد كانت تعتمد على إشعال الفحم، تُوضَع قِطع الفحم بجانب وفوق بعضها بطريقة تسمح بتخلّل الهواء ليساعد على الاحتراق، ويُرشّ عليها قليلا من زيت الكاز، وتُترك خارج البيت حتى تحمرّ جمراتها، فيُحمَل المنقَل إلى داخل الغرفة حيث تلتمّ العائلة، ويجلسون يدفّئون أكفّهم، فتُعدِّل الجمرات من برودة الجوّ، ولا بدّ من أخذ الحيطة من أنْ لايُحمل منقل الفحم إلى الغرفة إلاّ بعد تجميره، لخطورة انتشار غاز الفحم السامّ القاتل، وحدث أن اختنقتْ بعض العائلات بسبب هذا الإهمال، والخطير في أمر غاز الفحم أنّه يتسرّب ببطء، فلا يشعر به متنشّقه، بل يشعر بشيء من النّعاس، فيستسلم له، وقد تكون النّومة الأخيرة ،
هنا لابدّ من ذكر أنّ الأمطار كانت تهطل باكراً، تبدأ منذ شهر تشرين وتستمرّ حتى منتصف نيسان تقريبا، وكانت الأيام الباردة تتابع بدرجة لا نعرفها الآن إلاّ نادراً، فقد كان يتكرّر رؤية الماء المنساب من المزاريب وقد شكّل قضيبا ًمن الجليد يمتدّ من أعلى السطح حتى الأرض، وكنّا نرى الثلج يهطل ويغطي ما حولنا، وليس لمرّة واحدة، بل قد يتكرّر ذلك أكثر من مرّة، يبدو أن التّبدّلات التي رافقت أجيالنا لم تقتصر على العادات والتقاليد، وعلى مُجمَل العلاقات العامّة، بل شملت حتى الطبيعة، هذه الطبيعة التي هي في نظر البعض جسد حيّ، أشعْنا فيها من المخلَّفات السّامة، في البرّ والبحر ما أدّى إلى ما نواجهه الآن من أخطار مميتة، وثمّة مَن يرى أن هذه الطبيعة الحيّة تدافع عن نفسها كما يدافع الجسد ضدّ الجراثيم الوافدة إليه، وما ندري إلى أين سنصل بالإنسان المعاصِر الذي سمّمْنا هواءه، وماءه، وأخلاقه، وكان ذلك بيد الشركات والمصانع الكبرى، وهي التي تتحكّم بمفاتيح الدّول الفاعلة، سؤال كبير بحجم الألم الإنساني :” إلى أين يُسارُ بنا”؟!!
في مطالع خمسينات القرن العشرين تعرّف الناس إلى مدافئ المازوت، فكانت نقلة نوعيّة، لا يحتاج تخزينه إلاّ لماعون، تملؤه كلّما شارف على النّضوب، وكان المازوت متوفّراً، والكثيرون منّا يذكرون” طنابر” المازوت ” التي تجرّها الخيول، وصاحبها ينادي وهو يدور في الشوارع:” مازوت.. مازوت..”، وإذا كانت أنوفُنا آنذاك تتضايق من رائحته، فقد أوصلنا دواعش الخارج والداخل إلى مرحلة صرنا نرى في رائحة المازوت ما هو أكثر طيباً من رائحة العطور الباريسيّة!!
ها نحن، ولمّا يبدأ فصل الشتاء بعد، نتدثّر بالسميك من الثياب، ونستفيد من مجيء الكهرباء الخجول فنتدفّأ قليلا على ما يقال له مدافئ كهربائيّة، ولكنّ الكهرباء، لأسباب لا يعلمها إلاّ فطاحل جهابذة وزارة النّفط، أصبحت ساعتين تيّاراً متقطّعاً، وأربع ساعات و ” طبْشة ” فصلا من فصول العتمة، !!
إلى أين وإلى متى ؟!!
عبد الكريم النّاعم
aaalnaem@ gmail.com