محمد الرستم :من لا يمتلك الموهبة يخونه رحم الإبداع ولن تقوم حروفه من صمتها مهما أثار حوله من زوابع الكلام…
هادئ ..صامت.. وعندما يدلي بورقة العمل التي حضَّرها يفاجئنا هدير المعاني فنسمع حرفة صانع ماهر في تقفي الجمال والقبح على حد سواء فهو الناقد الذي لا يهادن ولا يداهن ..هكذا ببساطة ليس لديه (نص ممشط ) سيعمل أدواته في أي نص يحرك فيه حساسيته النقدية ,نحن أمام الناقد محمد الرستم الذي لا تحلو جلسة نقدية إلا برأيه والذي رغم قساوته أحيانا فإنه يكون كالعسل على قلب المؤلف لأنه تمكن من تظهير ألوان مشرقة في لوحته الأدبية بعيداً عن الرمادي البارد .
ضيفنا اليوم قضى أكثر من ثلاثين عاماً في الحقل التربوي ثم تقاعد ليتفرغ للعمل الأدبي النقدي …حاورناه وعدنا لكم بهذه الجعبة:
*العمل النقدي الهادف والجاد يكاد يكون أصعب من العمل الأدبي ذاته ..ما الهاجس الذي يسيطر على محمد الرستم حتى يستمر بكل هذا الحماس ؟
– قبل البدء لا بد من التنويه إلى الفارق الكبير بين مفهوم النقد قديماً حيث كان العمّل منصبّاً على إظهار عيوب النص ومحاسنه ، وبين النقد الحديث وبخاصة بعد أن ظهر مفهوم (البنية النصيّة) والطبقات التي يتألّف منها بناء النص حيث تكون قراءة النص محكومةً بمدى ثقافة وعمق وتذوّق الناقد .. لذا قيل إن للنصِّ قراءاتٍ مُتعدّدة ولا تلغي القراءات بعضها ، لذا فأنا مع استبدال كلمة «قراءة ، تذوّق ، مقاربة» بكلمة نقد وهاجسي في الكتابة هو الجمال … ثم الجمال لا غير .. والذي أراه يتجسّدُ أدباً فالأدب معطى أثيريّ ، هو نشيج الروح في مدلهمّات لياليها ونشيدها في إشراقات أصابيحها ، إنّه نبض الروح تلبسُهُ الحروف تاجاً هو وحده من يصوغ من الألم والقبح بهائيّةً جمالية.
*نصك النقدي في كثير من الأحيان يكون نصاً إبداعياً موازياً للنص الأم, ما سر هذا التواشج ؟وما هي مراحل العمل النقدي لديك؟
_- العلاقة بين النقد والأدب علاقة روحيّة تذوقيّة فنية وتكامليّة ، يغتني كل منهما بالآخر ، فالأديب نفسه هو الناقد الأول لنصّه .. فمُذ يكون النص أمشاجاً يبحث الأديب – لاشعورياً – عن الأجمل والأبهى لتكون الولادة ساحرة الطلّة ، والنقد يشكل أخيراً رافعة تالية للأدب ، لذا فإني أهتمّ وأعتني بما أكتب لأن المقالة النقديّة هي أدب أولاً وأخيراً وليس مجرّد تطبيق محنّطٍ لمنهجٍ نقدي ومنهجي في الكتابة انطباعي تكاملي .. بمعنى أن كل جزء من النص يفرض ما يناسبه من منهج ، فالنقد أولاً وأخيراً هو تنقيبٌ في جسد النص عن الجواهر المخبوءة في ثناياه .
* الواقع الثقافي يوازي الواقع الاقتصادي نخرج من أزمة لنقع في أخرى والفضاء الأزرق خلط الأوراق , ما سر أزمة النقد والإبداع على حد سواء؟
– من الأسباب انعدام الموهبة عند الذين يتنطحون للكتابة فالموهبة هي رحم الإبداع ومن لا يمتلكها يكن عقيماً .. ومن أبواب أزمة النقد هذا الطوفان الهادر من النتاجات الأدبية التي تفتقر إلى أدنى مواصفات المنجز الإبداعي , و إن إقبال الكثير على النشر بات للاستعراض لا أكثر و لا أقل … وبخاصة بعد التشجيع الحار الذي يضج به الفضاء الأزرق ( وسائل التواصل الاجتماعي ) حيث تغدو التي ما تزال تلثغ بحروف الأدب شهرزادَ البيان وأميرةَ البوح وخنساءَ الشعر ، مع أن ما يُقدّم مجرّد أزهار صناعية لا روح فيها فكي تحصل على قطافٍ ناضج يجب أن تولم لذلك كل ممكنات الإبداع من موهبة و مخيالٍ وزادٍ ثقافي وّذاكرة معطرة بحسٍّ جمالي عالي الكعب ، وامتلاك الأدوات اللازمة وأمام هذا الكمّ الهائل من الإنتاج الفارغ خفت وهج النقد ، إذ تلاشت الحدود بين المبدع الحقيقي وبين من يتسلّق جدار الوهم أعيد فأقول : من لا يمتلك الموهبة يخونه رحم الإبداع ولن تقوم حروفه من صمتها مهما أثار حوله من زوابع الكلام ، فالكتابة كما قيل : ” هي فيض قراءة” كما الينابيع فيض الأمطار التي أتخمت خوابي الأرض فمن لا يقرأ سيَقتاتُ على السراب ويدخل دائرة الخواء واجترار الذات ، وهذا ما يعاني منه معظم شعراء الفضاء الأزرق .
*من يستمع أو يقرأ نصوصك النقدية يدرك أنه أمام نص أبوي هدفه التقويم والتقييم بعيداً عن الأقلام الموتورة التي لا ترى سوى شوكة في حديقة ملأى بالزهور هل من تعليق ؟
– إني أرى نفسيَ هاوياً للتذوّق الأدبي ، ليس أكثر .. وإني لأعجب كيف تستسهل دور النشر التعامل مع المنتج الإبداعي حتى غدت كأنها أفران ثقافية ، بل مطابخ لمنتج استهلاكي ربحي ، بغضّ النظر عن النوعيّة ، فكثيراً ما يصلني من الدواوين التي لم أستطع أن أُكمل قراءة السخافات والأفكار السطحية والنمط الهزيل الذي جاء به الديوان إنني أنظر دائماً إلى النصف الملآن من الكأس ، أبحث عن بريق الإبداع فليس همي أن أضع النصّ على مشرحة المناهج .. بل الأهمّ هو التذوّق الإبداعي الذي يتلمّس البؤَر الجمالية ولا يهتم لبعض الهنات التي تتناثر منه على أرصفة الكلام ؟
*نصوصك النقدية أكاديمية مشفوعة بالتعليل لأي حكم تطلقه…هل تضع خطة أو منهجاً لكل عمل تتصدى له ؟
أنا أقرأ النص أكثر من مرّة لأن الانطباع الناجم عن القراءة الأولى يكون مزيجاً من المتعة الفنية ومشاعر الدهشة والحيرة والافتتان ، وفي القراءة الثانية أدخل دهاليز العمل الدقيقة بأضواء كاشفة لألتقط الومضات الخفية في المنجز الأدبي ولأتلمّس براعة الكاتب في غرس نبتة الدهشة السحرية التي تأخذ المتلقي إلى عوالم المتعة ، و لأتبيّن ملامح النص المغاير الذي يوحي بالخصوصية .. وحين أدلي برأيٍ نقديٍ تكون جذوره من داخل النص ومشفوعاً بأسانيد وشواهد من ذات العمل .. فالحكم الذي يُلقى على عواهنه وكيفما اتفق لا قيمة له , وكل ما أنشده الصدق الذي يدفعني لأن أكون وفياً لروح النص ومؤدّاه وأهدافه .
حوار :ميمونة العلي