لعلّ من نافلة القول .. وللأسف الشديد ، أنه ليست لدينا نحن العرب إستراتيجية ثقافية إعلامية للرد على الغزو الفكري الصهيوني وإذا كنا نبرر لأنفسنا ضعف الإمكانيات المادية ، فإن مثل هذه الإستراتيجية العربية الثقافية الفكرية ليس مأمولاً أن نصل إليها ،لا سيما وبعض الأنظمة العربية تهرول للتطبيع مع العدو الصهيوني بمعنى أن الصهاينة استطاعوا جذب هذه الأنظمة إلى دائرتهم .. وهذا استسلام وخيانة .
سرعة الردّ على ادعاءات وافتراءات العدو الصهيوني تقوم بها وسائل إعلام المقاومة وبجهود فردية أحياناً ، وتفند مزاعم المحتل والمعتدي على العرب بشكل عام .. من هنا نشعر بفقد كبير للمفكر والمحلل السياسي أنيس النقاش رحمه الله ,ويبدو السؤال جارحاً عندما نتساءل : ” كم أنيس النقاش لدينا ؟!”.
قد لا يتجاوز عدد المحللين السياسيين أصابع اليد الواحدة ، أو يزيد قليلاً..!!
الحصول على شهادة في العلوم السياسية لا يجعل من حاملها محللاً سياسياً أو استراتيجياً . وحده الفكر القومي والوعي السياسي والإيمان بالقضايا العربية ، وعلى رأسها قضية فلسطين يجعل المرء قادراً على التحليل والإقناع إضافة إلى التمكن من اللغة العربية بوصفها أداة تواصل ، لأن توظيف المصطلح والعبارة والكلمة والثقافة الواسعة تجعل المرء محللاً سياسياً بارعاً , وهذه الصفات قلما تتواجد مجتمعة في شخص ما ، مثل الراحل أنيس النقاش .
في تاريخنا القريب، في سبعينيات القرن الماضي كانت الإذاعة والصحف أهم المنابر الإعلامية ، وكانت افتتاحية الراحل محمد حسنين هيكل في الأهرام ، وكان يرأس تحريرها ، تبث في الإذاعات العالمية كمستند لما سيحصل أو قد يحصل وقراءة ً للواقع العربي، لاسيما ، بعد حرب تشرين التحريرية وفي أثنائها ، وليس بوسعنا أن ننسى الافتتاحية شبه اليومية ، في تلك الفترة ، لصحيفة السفير اللبنانية المحتجبة للأستاذ والإعلامي الشهير طلال سلمان ، أمد الله بعمره، ففي افتتاحية له بعد حرب تشرين جاءت بعنوان / الحج إلى دمشق / ناشد فيها الرؤساء والملوك العرب أن يتوجهوا إلى دمشق ويتعلموا أبجدية العروبة والصمود، وبسبب هذا المقال منعت الصحيفة من الدخول إلى بعض البلدان العربية ، وقد أوعز السادات بمنع دخولها إلى مصر، لأن طلال سلمان تنبأ بأن السادات سوف يعمل شيئا ً قد يضر بالعرب ..!!
هذا الكلام ليس المقصود منه النيل من بعض المحللين الذين يجهدون في تحليل الحدث،وهم معذورون لأن إمكانياتهم الثقافية والفكرية، ليست عالية بما فيه الكفاية .. وربما لأنهم وجدوا أنفسهم في هذه المهمة – التحليل السياسي – بسبب العدوان الكوني على سورية ، وحماسهم للرد على العدوان وأسبابه والدعم المعنوي للناس في وجه المؤامرة التي باءت بالفشل بسبب صمود السوريين : قيادة وجيشا ً وشعبا ً .. وليس بوسعنا إلا أن نشكر هؤلاء ، فالرد على تخرصات وافتراءات العدو يحتاج إلى حجج دامغة ولهجة مناسبة وكلمات واضحة تخاطب العقل، إن مقالا ً واحدا ً يبث على فضائية ما أو صحيفة ما ، وتتناقله وسائل الإعلام يحدث زلزالا ً في الرأي العام ، سلبا ً أم إيجابا ً ، وهذا يحتاج إلى تحضير ودراسة قبل البدء في الكتابة، أو الكلام في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية… القفز من محطة إلى أخرى ، وإعادة تكرار الكلام لايصنع محللا ً سياسيا ً ولا مفكرا ً استراتيجيا ً … مثلما يفعل البعض .. من هنا نشعر بالفقد الكبير للراحل أنيس النقاش.. هذا المفكر القومي العربي ، المدهش في ثقافته الواسعة وإيمانه الراسخ بقضايا العرب .
عيسى إسماعيل