الجو بارد منذ الصباح ، وهي رغم برودة الجو لاتزال مزروعة على الشرفة المشمسة بلا حراك لأنها تعجز عن النوم في تلك الفترة الباكرة من الصباح ، تأخذ شهيقاً عميقاً وتخرج الزفير وكأنها تخرج من داخلها معظم همومها، تتمنى أن تصرخ وتصرخ، فهي لم تنقطع عن حزنها الذي أخذ يصبغ أيامها، تحس مع كل دقيقة تمر وكأن سكينا ً حادا ً تنغرس في صدرها، وجهها البريء يتفصد عرقا ً ..
أخذت تراقب المارة الذين يروحون ويجيئون، وجوههم متشابهة يشوبها السواد، تحمل ماتحمله من الهموم والآلام ، منشغلين بتسوق حاجياتهم اليومية ..
كان للقدر وقسوته آثاره السلبية على قسمات وجهها الغض والذي وضع حدا ً لأحلامها الحلوة مع شريك حياتها والتي عاشت معها طوال سني الزواج الأولى ..
تلك الصدفة قررت مصير زوجها التي سلبته قدرته على المشي في لحظة غدر بإصابة خطيرة في العمود الفقري ..
استرقت نظرة سريعة إلى كرسيه المتحرك … فالتقت عيونهما وأشرق وجهه بابتسامة حلوة ولم تفارق وجهه لحظة واحدة كان لايزال قادراً على إدخال البهجة إلى قلبها، يرمي بها في حديقة غناء تموت فيها كل آلامها ..
كان ينتقل بين المشفى والمنزل وكله أمل في إيجاد علاج شاف يعيد الحياة إلى نصف جسده الأسفل الذي أصيب بالشلل التام ، ربما تأتيه بشرى من طبيبه المشرف على علاجه ، لكنه لم ييأس لحظة واحدة من رحمة الله تعالى حتى وهو يرى الأطباء يهزون رؤوسهم في أسى ويعلنون في همس ” لقد فعلنا كل مافي وسعنا ” ..
بات يجلس فوق مقعده المتحرك ذي العجلات الذي يدفعه بيديه ، أهداه له بعض أهل الخير.. فبدأت مرحلة جديدة في حياته يعتمد فيها على نفسه في كل شيء، يؤدي مايحتاجه من أعمال معتمدا ً كليا ً على الذراعين ..
ورغم كل شيء كان حديثه العذب يسعد من حوله .. تعلم كيف يحرق كلمات اليأس من شفتيه لأنه لايزال يؤمن بأن في قاع بحره كنوزاً نادرة.. هي ذكرياته على جبهات القتال مع رفاق السلاح تشد مستمعيه .. يستحضر جولاته وصولاته في أرض المعركة كنسر جارح .. مقاتل مغوار زرع الخوف في قلوب الإرهابيين الغرباء .. هذه الشعلة تتوقد ناراً وحماسة وحباً للوطن وللمستقبل .. ومن أطفؤوه جسدا ً ، قد أشعلوه تفاؤلا ً وودا ً فالإصابة لم تفقده قوته الداخلية، وحديثه السلس ينسي المقربين منه أنه بات لا حول ولا قوة له … كان يطلق النكات ويضحك من أعماقه، وكانت هي تضحك معه وتمازحه.. يحدثها عن المستقبل وعن أمانيه وآماله، عن تمنياته بعودة الأمان والاطمئنان إلى ربوع الوطن .. يتحدث عن حياتهما المشتركة ومشروعاتهما للغد وللأولاد، وهي تستمع إليه في ذهول .. ذهول المفاجأة بما يملأ قلبه من قوة و وتفاؤل ربما يفوق أقرانه الأصحاء … بينما هي تبحث دائما ً عن مكان قصي بعيد عن الأنظار تفرغ فيه دموعها وتصب فيه أحزانها التي تظل طوال النهار حبيسة نفسها.. لكنها في الوقت نفسه نذرت نفسها وحياتها له تسهل له الطريق فلا تريد أن تشعره بهول ماحدث ..
كل شيء يجب أن يبدو طبيعيا ً .. على الرغم من شعورها أن رحلتها مع العذاب قد بدأت ، وأن قلبها سيبدأ بالتمزق والانشطار … لكنها حين ترى ابتسامته وهو يداعب ولديه الصغيرين يفارقها ألمها ويغادرها حزنها لتودع دموعها ، وهي تحاول ألا تفقد قوتها لحظة واحدة من لحظات حياتها ..
عفاف حلاس