تحية الصباح .. من الذّاكرة 6

جاء الشاعر الشهيد خالد بشار إلى حمص أوائل سبعينات القرن الماضي، وبدأ العمل في صحيفة العروبة، وكما هي عادة حمص فقد استقبلتْه بانفتاح وترحاب.
عند هذه النقطة إسمحوا لي بالاستطراد قليلا، فلقد جرى ذات جلسة نقاش حول انفتاح مدينة حمص، وشيء من انغلاق الجارة ( حماه)، حتى في حركة حداثة الشعر كانت حمص سبّاقة، ولم أعد أذكر ماقيل في ذلك، بيد أنني أستطيع أن ألخّص مجمل الآراء التي خَمّنتْ بشكل ما، على أنّ للمسألة الجغرافيّة بعض الدّور، فحمص منفتحة من جهة الغرب على البحر عبر الفتحة الجبليّة بين سلسلتيّ الجبال الشماليّة والجنوبيّة، وفي جهات الشرق والجنوب .. تمتدّ الأرض منبسطةحتى تخوم البادية، هذه الرحابة في الجغرافية تركت حضورها في نفوس سكّانها، بينما الجارة العزيزة ( حماه)، تقع في منخفض يشبه (الجورة)، ولا أقول هذا تعصّبا لأهل حمص، فأنا من مواليد ريف حماه، ولا شكّ أنّ في الرأي السابق ميْل غير خفيّ لصالح الحمامصة.
جاء خالد بشار هو وزوجته، وبعد فترة قصيرة كان له من الأصدقاء، في أوساط الأدباء في حمص، حضوره اللاّفت، فهو دمث المعشر، حلو الحديث، يقترب من معارفه بقامته الفارعة، وبابتسامته المشرقة، وبلهجته الفراتيّة، لهجة أهلنا في دير الزور،خالد كان طالب هندسة في السنة الثالثة في حلب، وفُصِل من الجامعة بسبب اتّهامه بأنّه ضرب عميد الكليّة بقضيب حديديّ في مظاهرة احتجاج ضدّ حكم الانفصال، فقد كان عروبيّاً، وحدويّاً، لايُخفي ميوله، ولم ييأس، بعد ماحدث له، فقد سجّل في دمشق كطالب سنة أولى لغة عربيّة، لم يشعر بالغربة قطّ، بل كان منفتحا انفتاح جغرافيّة هذه المدينة، وبدأ يُشارك في نشاطاتها الأدبيّة، ويكتب عنها، وحين دُعي لأداء الخدمة الإلزامية التحق بالجيش، وذات صباح من معارك تشرين التحريريّة 1973 طالعتْنا صحف العاصمة بنبأ استشهاده، وكُتِب فيه ماكُتب، وخلّف ذلك حزناً عميقا في صدور أصدقائه،الصديق ممدوح السكاف، عافاه الله، اقترح أن نقيم حفلا تأبينيّا لخالد بشار في المركز الثقافي القديم، وتبرّعتُ بكتابة دراسة عن بعض قصائد الشهيد خالد بشار، وقد اعتمدت في الحصول على معظمها من أرشيف « العروبة»، وكلّفني ذلك المُجهد من البحث في أرشيف الجريدة، ورُتِّبت الأمور بدقّة، ولم يكن في القاعة إلاّ أهل حمص، الذين سارعوا لحضور تلك المناسبة، وكان تأبيناً لائقا بشاعر شهيد، وألقيتُ دراستي التي ماتزال بين أوراقي فيما أرجّح، وما أدري ماإذا كانت مع رفيقات لها سوف تبصر نور الطباعة، بيد أنّي لاأعرف أين هي الآن،حين انتهينا من الاحتفاء، ولم أعد أذكر ماقُدّم فيه، فقد راكم غبار السنوات على الذّاكرة حتى حجب عنها ماحجب،.. تقدّم مني الصديق والشاعر والناقد ممدوح السكاف، وقال لي مامعناه:» ماذا فعلتَ يارجل؟!! لقد شهّيتني أن أكون الشهيد ذاته، ويُكتب لي ماسمعتُه اليوم»،
رحم الله الشاعر الشهيد خالد بشار، القادم من دير الزور، نزيل حمص، هاأنذا أكتب عنه من جديد بعد مضيّ خمسة وأربعين عاماً، رحم الله شهداءنا الذين ملأت قبورهم الرّحب، وحمى سوريّة المقاومة الصامدة، حماها من متخفّي الداخل، قبل علنيّي الخارج…
عبد الكريم النّاعم

المزيد...
آخر الأخبار