في تلك الجلسة الرّمادية القلقة، قال «محزون»، خالها الوحيد، لعمّها الطيّب «مقهور»، بمنزله:
اللعنة على صهرنا الطّماع «دندول»، سيضيّع ابنته الوحيدة، بتزويجها المُبكّر، من رجل ثري!
بقهرٍ حارقٍ ردَّ عمّها:
لكنْ هل يُعقل يا «محزون»، أن يزوّجَها من شخص بعمر والدها، ربّما أزيد بعشرين، ثلاثين سنة.
قلْ «بيعها»، «لا تزويجها»، الدنيا آخر وقت، العياذ بالله!
أنت تعرف مثلما أعرف، أنها مُجدّة بدروسها، وذكيّة، هدفها الوصول للجامعة…
نعم كلّ المعرفة.. برأيي «تزويجها»، أو «بيعها» بهذه الصّورة، جريمة كبرى..
«الأفندي: عريس الهنا» أغْرَى والدَها بالنقود، أنت تعرف «دندول»، كم يعشق المال، «طوال عُمْره يحب المال»..
تحدّثتُ إلى أختي «صفاء»، لكنْ دون ثَمَرَة، بكَتْ بِحُرْقةٍ كاوِية..
– أخرجَها أبوها من المدرسة؟ لأجل مراسم العرس، شيء غريب عجيب؟
هذه جريمة أخرى.. إنّه سيقضي على مستقبلها التعليمي، بكلّ تأكيد.. لمّا اعترضْتُ على قرارِهِ الظالم، صار يدير وجهَه كلّما رآني.
لأنّني اعترضتُ مثلك، على هذا الزّواج غير المُتكافِىء، وأنَّ البنت تريد متابعة دراستها، لم يَعُدْ يكلّمني بتاتاً!
الأمرُ لله من قبلُ، ومن بعد.. الله يهديه، ويصلح عقله!
لم يشرب «محزون» كوب الشاي المَصبوب، كان مزاجه معكّراً تماماً، على مصير ابنة أخته، الحبيبة لقلبه جدّاً، انتفضَ واقفاً لتوديع «مقهور»، الذي كان قهره على ابنة أخيه موازياً لقهر خالِها، وربّما أزْيد..
* * *
كان والدها قد اتّفق وأهل «عريس الهنا»، على مَضَضٍ من والدة «تغريد»، على الذهاب إلى «المحكمة الشرعية»، لعقد القِران، منْ صباح الغد.. بحِيلةٍ ما، تمكّنت «العروس» الافتراضيّة – بساعاتِ الصباح الأولى – من الهرب.. انفضّت جلسة المحكمة إذاً على لا شيء، كانت صدمة والدها الجشِع كبيرة ، أمّا «العريس الخمسِيني»، فقد جرَفه «سَيْلُ الآهات والإحباطات»، عندما عَرَفَ الحكاية، شرَعَ يندب حظّه السيّىء «المعتّر»، بلْ صار يهذي كمجنون..
* * *
كان العريس الثّري بكلّ زيارة لأهل خطيبته، يدعمها بِحفنةٍ مِحْرِزة من المال، يأتيها بالذّهب والهدايا غالية الثمن، يعطي والدَها الطمّاع ما يحتاج إليه من نقود، بطلبٍ وبغيرهِ، «الحق لم يكنْ خطيبي بخيلاً على وجه العموم»، كانت «تغريد» تقولها لعدد من صديقاتها في كلّ مرة تُفتَح فيها سِيرتُه.. لكنّ «العروس الافتراضية»، وأثناء خطوبتها لـ «عبد الغني، 55 عاماً»، كانت قد تعرّفت عنْ طريق «الفيس» إلى «حيّال الدّايخ»: (شاب ثلاثيني، يملك شقّة مُؤثثة منْ «كله»، يعمل بوظيفة محترمة، راتبه الشهري عال العال، لديه سيّارة خاصة، يريد إكمال نصف دينه، بالزواج من فتاة محترمة، وها قد وجد ضالّته)..
* * *
يوم هربتْ «تغريد» بذاك الصباح الرّمادي، كانت قد توجّهت توّاً لمحطة الباصات الخارجية، وقبل أنْ تحجزَ لها مقعداً، اتصلتْ بحبيبها «حيّال»، قائلة بغنجٍ مُتّشحٍ بِغُنّةِ أسىً:
بعد أقلّ منْ ساعتين، أكون عندك حبيبي، بمدينتك، انتظرْني بمكانٍ مُحدّد.. إلى اللقاء عمري.
أحلى خبر بحياتي، يا حياتي، أنا بالانتظار على أحرَّ من الجمر.
بطريقها لمحطة السّفر، جاءها هاتف من الضمير، «أنّ ما تقومين به يا تغريد، ليس منْ صُلب تربيتك، ولا منْ أخلاقك العالية، عُودِي إلى رشدك وصلاحك، ثم لا تنسي حزن أمك الغالية، ودمعها العزيز»!
يقولون: «الهداية من الله»! «تغريد» الواعية، قالت بِسرّها: «الأفضل لي الذّهاب لِبيت خالي الغالي، أو بيت عمّي الحنون، هناك أشرح لهم القصّة من ألفها، إلى ياء قسوتها وظلمها، حتى يجدوا لي حلّاً حاسِماً، فأعود لمتابعة دراستي، قبل أنْ تقع الفأس بالرّأس، خوفاً منْ ضياع مستقبلي العلمي المنشود».. وهذا ما كان!!
وجيه حسن
المزيد...