ريقي يجفّ، قلبي يتوفّز، أعصابي تتهرّأ؛ كلّ نأمةٍ أو حركةٍ لدى الجيران، وخارج جدران بيتي، تثير فيَّ شجوناً. أبلعُ ريقي بصعوبة، جفافه يزرع جفافاً مُوازياً بروحي؛ الجفاف يُجفّفني، وزقزقة ذاك العصفور الحاطّ على نافذة غرفتي يزرعُ فيَّ نقيقاً مضاعفاً. من بعيد، بهذا المساء المُطلسَم، يخترق أذنيَّ نباحُ كلب، بكاءُ طفل صغير، صافرةُ سيارة تمرّ سريعاً، وقعُ أقدام متفرّقة؛ الترقّب ينزرع ضاغطاً، طاغياً بقلبي، صار قلبي مشاتل ترقّب حقيقيّ! بِهذه اللحظات المُنهِكة، نبتَ لي آلاف الآذان، أستغرب، كيف نبتت فجأةً آذاني الجديدة؟ صرتُ الآن نكرةً بين الرّؤوس، صرتُ أرهَفَ سمعاً! عقلي يقظ، لو يدخلُ «مسابقة تمييز الأصوات»، أظنّه الأوّلَ فيها، مع ذلك هل هذا الوقعُ، وقعُ حذاءٍ نسائيٍّ لامرأةٍ واعدتْني على المجيء؟ أم وقعُ حذاء امرأةٍ أخرى، تسكن الطبقة العليا! الوقْع يتلاشَى، نبضاتي تتسارع، أمتلئ صمتاً، أمتلئ آذاناً لاقطة، سُكوناً ضاجّاً؛ لا أكتمكم السرّ، نبتَت آذانٌ بأصابعي، بِريشة قلمي، أراها اللحظة ـ صدّقوني ـ رؤية العين. بكلّ ناحيةٍ منْ نواحي غرفتي، أرى صور آذانٍ مرْسومة بأشكال مختلفة، هي صحون لاقطة .. ثانية أسمعُ طرطقة حذاءٍ نسائيٍّ على الدّرج القريب، أقفز مُتهيّباً، أتهيّأ، واعدتني على المجيء بالسّادسة، ها هي السّاعة أزِفَت، إذاً من المؤكّد أنّها وصلت! بِلحظة خانقة، أسمعُ مِفتاحاً يمر بِقفلِ الجيران، أتلصّص من العين السّاحرة، أرى جارتنا الصبيّة، وقد عادت بوقتها المعتاد من الجامعة! ثانيةً يرتدّ إليَّ قلقي، توفّزي يجرحُني، بَدَوْتُ ريشةً مصفوعةً بِشُهُب الشّياطين؛ أمطمطُ رأسي يمنةً يسرة، لِفوق، لِتحت، أرى كلّ الآذان تتوجّه بعيونها إليّ، شعرت أمامها بانكسارٍ منْ نوعٍ صعب، كأنّي مُتّهم، جريمتي أنّني استنفرتُ آذاني، باستهزاءٍ حادٍّ أسمع كلماتِها المُتخابِثة.. ذلك يسحقني، خوفي منْ عدم المجيء، يجرحني، يبتلعني! اللحظة يُباغتني وقْعٌ جديد، بلا وعيٍ، أصبُّ جسدي قربَ الباب، كتمثالٍ أقف متثلّجاً، دون أيّ حركة، سوى فيضان نبضات قلبي، المتوفّز، القلِق! من جديدٍ يتلاشى الوقْعُ، الانتظار يتبعثر؛ بحركةٍ غير مدروسة، أدفع جسدي إلى الأريكة، القريبة من الباب، ناشِداً قليلاً منْ هدوء الأعصاب؛ نظرت ساعتي َ، هي السّادسة والنصف، قلتُ بِسرّي، بانكسارٍ إضافيّ:
«المرأة التي واعَدَتْك، لنْ تأتي»!
ردّ عليه توفّزٌ بقلبي:
«بلْ ستأتي، الغائب عُذْرُهُ معه»!
قطع الحِوارَ المُشاكِسَ، طَرْقٌ على الدَّرج، المُوصِل من الشّارع، لباب منزلي، أنتفضُ واقفاً، أتهيّأ مُجدّداً، أتهيّب.. الطَّرْق يطرُقني، الطَّرْق يختفي، أضيعُ بزحام نفسي، يجرحني سُخفٌ حادّ، ينسيني آخر قطرة فرحٍ جوّانيّ، يمحو الأمل باللقاء! بداخلي يتأزّم صِراعٌ مَقيت.. كلّ الآذان ترمقني بِسَفَهٍ، أصبح عصفوراً يتمرجحُ بالهواء، بعدما صوّب إليه صيّادٌ ماكر، رصاصَ بندقيته النّكراء.. نفسي الحَرُون، تعاتبني:
«واعدتْكَ على المجيء، أقسَمَتْ، السّاعة تشارف السّابعة، إذاً هي كاذبة، ليست المرّة الأولى، انتظرْ المزيد مِنْ رَجْمِ الأكاذيب»!
نبسَ صوتٌ تسلّل مِنْ بينِ الضّلوع، يحملُ بارقة أمل:
«بل هي آتية، انتظر وقتاً إضافياً، فللنّساء ظروفهنّ الخاصّة»..
بهذا الخضمّ، من قريب وبعيد، يهاجمني نَبْحُ كلاب الحيّ، احتجاجاً لصالحي أو ضدّي، لا أدري، الأوراقُ اختلطت»!
قلتُ بتقييمٍ وسط: «لا ريب، هي آتية، الكلابُ تنبحُ، لأنَّ إنسِيّاً يتسلّق الدّرب، يمشي.. وبعضُ الكلاب تنبح واهمة لمجرّد النّباح»!
الساعة السابعة والنصف، قلتُ: «كفَّ عنْ هذا، الوقتُ يضيع، ، كُنْ رجلاً»!
لمّا هممتُ بالتحرّك، لأبدّلَ ثيابي، فجأة وصلتني همهماتُ أقدامٍ تقترب.. آذاني تهرب منّي، تمثّل ثلّة منْ الحرس، من الباب، للدّرج، فالشارع العام، تلتقط لي بِتعاطفٍ إنسانيّ آخر الأنباء، أعزَّها لقلبي، بينما أنا، أجاوِر الباب، أدخله، أتحسّسُ خشبَه، أراهُ طريّاً كثغرِ طفلٍ رضيع.. الهمهمات تقترب.. آذاني الغاليات تلتقط لي حذافيرَ الأشياء، أدقَّها، القرب يقترب، الطَّرْقُ ينضافُ إليه طَرْقٌ وطرْقات، ها هو جرس بيتي يُقرَع، يصلّ صليلاً متواتراً، قلبي يقفز، ريقي يجفّ، التهرّؤ يمتدُّ متطاولاً، تتحرّك بيَ القافلة، ينبجسُ نبعٌ كانَ مُنكتماً، يدخل بعضي ببعضي، أمشي لأعلى، أغورُ ببلاط البيت، كماءٍ مُنداح، يركبني فرحٌ كان هاجعاً، وبسرعة نيزكٍ مُتهاوٍ، تمسك قبضتي قبضة الباب، ينفتح، كان الذي بالبابِ امرأة أخرى، تسأل عنْ منزلٍ آخر، وعنْ شخصٍ لا أعرفُه…
وجيه حسن
المزيد...