يا سبحان الله، الدّنيا فيها العَجبُ العُجاب، فيها الأسود والأبيض، والبنفسجي والليلكي، والرّمادي والدّخاني، فيها الأحمر والأخضر والأصفر، وباقي ألوان الطيف!
ولدى جمهور الناس، مَنْ هو أبيضُ السّريرة، ومَنْ هو أسودُ الطويّة، وهناك أناسٌ مجبولة نفوسُهم وأرواحُهم على الرّقة والعذوبة والاخضرار، وفئة أخرى، لوّث اللونُ الأصفرُ قلوبهم، إذ وشّاها بِوَشْيِه، ولوّنها بلونه الفاقع، الذي يذكّرنا بلون النّار، والهشيم، والليمون، وصفرة أوراق الخريف، لذا يقولون بالمثل الدارج، حين يقعون على شخصٍ أصفريٍّ: «اللؤم ينزّ منْ عينيه، وأصابعه، ووجهه الليمونيّ»، لشدّة مقتهم له، وحنقهم عليه، بسبب سلوكياته الشّائنة، وتصرّفاته البائخة!
ومن الناس مَنْ إذا جالسْتَهم ساعة، أو بعض ساعة، مللْتهم، وأثقل عليك حضورُهم ووجودُهم، وضرَعتَ إلى اللهِ العليِّ القدير، أنْ لا يجمعك بهم مرّة أخرى، لا في الدّنيا ولا في الآخرة.. ومنهم مَنْ تجالسهم دقائق أو أكثر، فتودّ منْ أعمق الأعماق، لو تجالسهم دهراً بطوله، «إلى أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها»، وما عليها.. كذلك شريحة الكتّاب والأدباء، فمنهم مَنْ إذا قرأتَ له قصيدة، أو قصة، أو «طيفاً» من الأطياف، أو مقالاً، أو كتاباً، أو عموداً، أو زاوية، فكأنّك قرأتَ كلَّ ما كتبه، وما سيكتبه، في القابل من الأيام والسّنين؛ أمثال هؤلاء يشبهون «كتّاب العرائض»، و»مُعَقّبي المعاملات»، أرباب «الزِّحافات والعِلل» – حسب قوانين «علم العروض»، الذي وضعه «الخليل بن أحمد الفراهيدي».. وكنّا – نحنُ القرّاء – نطلب، أو نأمل في كتابة هؤلاء، أنْ تمتلىء فكراً وأدباً وعاطفة وصدقاً وجَلاءً، بآنٍ معاً، وألّا يكونوا «كَمَنْ يبتغِي عَسَلاً من البَصَل»! ومن الكتّاب والأدباء «الأفذاذ» كذلك، مَنْ تقرأ لهم مجموعاتٍ قصصية بكاملها، أو روايات مُطوّلة، أو دواوين شعرية برمّتها، فلا يستوقفُك فيها سوى قصة أو قصتين، صفحة في رواية أو صفحتين، قصيدة في ديوانٍ أو قصيدتين، أو فلنقل: بضعة أبيات مُتناثرة، هنا وهناك وهنالك، تبيّنُ رُتَقَاً جديدة، على أثوابٍ باليةٍ رَثّة! هؤلاء هم كتّاب المُصادفات وشعراؤها، إذْ ما يكتبونه، وما ترسمُه أقلامهم، لَهُوَ في أعمِّهِ الأغلب، أشبَهُ ما يكون (بقبضة تِبْرٍ «ذَهَبٍ»، في رَبْوةٍ منْ تراب)، على حدّ قول الكاتب المرحوم «ميخائيل نعيمة»!
على الضفّة الأخرى، هناك كتّاب وأدباء، لا تقرأ لهم أسطراً معدودة، في مجموعةٍ، أو روايةٍ، أو كتابٍ نقديّ، أو.. أو.. حتى تستهويك، وتستغويك، لمواظبة القراءة بشوقٍ ورَغبة، فتراك في لحظةٍ ساخنة، وعنْ غير قصدٍ منك، وبعفويّة طاغية، تنقّل عينيكَ على بقيّة الأسطر، وباقي الصّفحات، مُستمتعاً بما تقرأ، كأنّك تدخلُ قصراً منيفاً، مُزنّراً بالورود والرّياحين، مزْرُوعاً بأنواع الزّهور، على مختلف الألوان، والرّوائح الشّذيّة! هؤلاء هم الكتّاب والشّعراء الحقيقيون، الذين نطلبُهم، نريدُهم، نقرأ لهم، في كلّ وقت، وكلّ حين، الذين في كتاباتهم أمداء وظلال وأطياف وأفكار وعواطف وامتلاء، الذين يُدخِلون السّرورَ والبهجة إلى ضِفاف نفسك، وشغاف قلبك، وسواحل عقلك، وأنت تتلو أسطر الكتاب وجُمَله وأفكارَه وأسلوبَه الشّائق المَاتِع، ولأنّ هؤلاء، في المقام الأوّل، يحترمون القارىء، يحاولون ملْء فضاءٍ منْ فراغه في قراءة ما هو مفيدٌ مُثمر، وهم يبتعدون بكليّتهم، عن قراءةِ الكتابة الفارغة، التي لا تُسمن، ولا تُغني، وتلك التي لا تضيف للقارىء، إلا كلاماً بارداً، باهظاً، صقيعاً، أجوف.. أيّها السّادة، أرباب الأقلام المحترمون، لتكنْ كتاباتنا أقربَ إلى الواقع، إلى الحياة، تخترق ستائر القلوب، تنفذ بقوّة إلى أعماق الرّوح، ألم يُقَل: «الكلام النّابع من القلب، ساقطٌ أبداً في القلب»؟ وقِيل: «منطقُ القلب لا جِدال فيه»؟! علينا أنْ ندرك معاً، أنْ نقرَّ سويّة، أنَّ مصدر الكتابة: «الحياة»، والحياة هي هي، أعني «الواقع المَعِيش»، بما يفرزه من مشكلات وحَيَوَات ومواقف وأنْبَاض، وأفراح وأتراح، وخسارات وأرباح، ومن تلاوين بشريّة، وعلاقات اجتماعية، يصعب على المرء إحصاؤها، وتعداد وجوهها، في مقالٍ مُجتزَأ كهذا! ونحن أبناء اليابِسة، علينا – منْ دون تهيّب أو مُداوَرَة – أنْ نهمسَ في آذان كتّابنا وأدبائنا الأفاضل، من محيط الوطن لخليجه: «ويلٌ لكاتبٍ لا يقرأ الناسُ بين سطورِه سُطوراً، وويلٌ لقارىءٍ لا يقرأ منَ الكلام إلّا حُروفَه»، حسب قول الرّاحل «نعيمة».. أكتفي بهذا القدْر.. لألتحفَ ببطّانيّة التأمّل، إلى حين كتابة تحيّة من التّحايا المقبلة، طابت أوقاتُكم والأسْماع!!
وجيه حسن