لم تعد تحتاج دول الاستعمار لتحتل البلدان أن تأتي بجيوشها وأعتدتها العسكرية إليها بشكل مباشر ، فهذه العملية مكلفة بشرياً واقتصادياً ، وقد تكون خسائرها كبيرة جداً في الصدام المباشر ، فكان لا بد من استبدال هذه الطريقة القديمة بجديدة تؤدي لها النتائج نفسها دون خسائر ، واختصاراً لكل هذه الخسائر ابتكروا طريقة جديدة بديلة وكان ذلك صناعة النت بشبكته العنكبويتة ، لينتقل إلى استعمار غير مباشر لعقول وسلوك الشعوب كما يرسمها من خلال هذه الشبكة ، فقد استطاع أن يدخل كل بيت من بيوت الدول المستهدفة مباشرة متسللاً دون أن يراه أحد أو يشعر به ، وأخذ يدخل العقول من الطفل حتى كبار السن ، ووسيلته في الوصول هو جهاز صغير يمكن لكل إنسان امتلاكه وهو جهاز الهاتف المحمول ، ووضعوا فيه كل ميزات الكومبيوتر المنزلي بكل ما يمكنه من اتساع للمعلومات المفيدة وغير المفيدة ، والتي تداعب كل رغبات البشر لتصنع مجتمعات تابعة له في التفكير والسلوك ، عن طريق هذه الشبكة العنكبوتية للاتصالات في العالم ، كالتويتر واليوتيوب والفيس بوك والواتس أب ، ومن خلال الجهاز المحمول استطاع الكبار والصغار الدخول إلى تلك المواقع للتصفّح والتسلية والاتصال بالصوت والصورة ، فترى أفراد الأسرة موزعين في زوايا مختلفة من البيت كلٌّ منهم وبيده جهازه الخاص منكبين ومندمجين به إلى حد نسيان الذات ، فطالب المدرسة بيده جهازه الخاص إلى جانب كتابه المدرسي ، وكذلك مع من يتناول الطعام أو من يشرب المتة أو يسير في الطريق لدرجة أن البعض منهم تعرض لحوادث اصطدام بالسيارات المارة في الشوارع لاندماجه بجهازه وهو يسير في طريقه لعمله أو مدرسته أو متجره أو مكان عمله ، وقد حدث هذا معي وأنا أقود السيارة وكدت في أكثر من مرة أن أصدم أحد هؤلاء وهم مندمجون بتصفح مواقع التواصل الإلكترونية ، إذ ينسون أنفسهم أنهم في الطريق وبين السيارات والمارة ، إنه الاستعمار الجديد بأحدث نُسخِهِ حتى كاد هذا أن يكون الشغل الشاغل للجميع ، ما أثّر على إنتاجية الجميع في كل مجالات الحياة ومنها التحصيل الدراسي ، فهل أصبحت الحياة عبارة عن جهاز خليوي حديث وحسب ؟ عدا عن التأثير في الفكر والثقافة اللذين ينشرهما أعداؤنا على تلك المواقع وإيصالنا إلى أنماط من الحياة والتفكير والسلوك هي ليست من ثقافاتنا وعاداتنا وتقاليدنا وأخلاقنا واهتماماتنا ، فهل هناك استعمار للشعوب أقل ثمناً من هذا الاستعمار ؟ مع التنويه إلى أنه لا يمكن نكران فائدة هذه الشبكة العنكبوتية بما تختزنه من معلومات مفيدة إذا أحسنّا الاستفادة منها دون الاستغراق في كل ترهاتها وما أكثرها ، وهذا يحتاج لحملة توعية لأجيالنا من خلال المناهج التعليمية و الجمعيات الأهلية وغيرها.
صالح سلمان