تحية الصباح .. لُقْية

بين فترة وأخرى أعود إلى أوراقي، فأصنّف بعضها، وأُراجع البعض ، وأمزّق معظمها بسبب ماتحمّلني من أعباء، ولأرتاح من ضغط وجودها، وكم في أدراج بعضنا من أوراق قد يكون إتلافها هو الأفضل لنا ولها.
بين هذه الأوراق وجدتُ هذه الورقة، ويعود تاريخها إلى 6/6/2000 ، وقد جاء فيها :
مات ملك إحدى الممالك، هكذا وُجِد في مخطوط نادر، مكتوبا بخطّ جميل نادر، وعلامات ترقينه رُسِمت بالأحمر، فزادته جمالاً، تفتح الصفحة فتحسب أنّك ترى بُرْج حَمام فِراخه الحروف، كانت المملكة قد ملّت من لُعبة إطلاق ذلك الطّائر، المذكور في بعض أدبيّاتنا القصصيّة، فيكون الملك من يحطّ الطائر على رأسه، هذا الطائر أطلقوه ذات مرّة ليؤدّي وظيفته ، ففرّ إلى رؤوس الجبال العالية المكسوّة بالشموخ، والغابات، ولم يَعد ، وأُحرِجت المملكة، فلم يكن لديهم طائر آخر يؤدّي المهمّة، ولم تكن تقنية الغرب في الديموقراطيّة تنسجم مع روحيّة تلك المدينة، فابتكروا طريقة جديدة تُوزَّع فيها الاستمارات على الرّاغبين في المُلك، فيكتب كلّ واحد الخطوط العريضة لبرنامجه في الحُكم، ولم يكن ( المستميرون) الرّاغبون يعلمون أنّ اللجنة المكلّفة التي تفضّ المغلّفات قد ابتكرت آلة تستطيع قراءة حقيقة مافي الصدور من خلال السطور.
اجتمعت اللجنة في ليلة كان القمر فيها بدرا، والفصل صيفا، تحت قُبّة سماء شرقيّة بمصابيحها العالية، وهبّت نسائم عليلة.
في مغلّفِ صيرفيّ قرأوا:« سأجعل من الوطن بورصة لاتهدأ فيها المُضاربات»،
في مغلّف تاجر قرؤوا:«سأجعل الوطن سوقا يلتقي فيه كبار تجّار العالم، وشركاته الكبرى، ومقاولوه الأشاوس.
في ظرف قائد الجُند وجدوا :» سأُنشئ جيشا يخاف من سطوته الحديد، وليس له مثيل في التاريخ.
في مغلّف فيلسوف وجدوا:» سأُنشئ أوّل ( جمهوريّة) ( لمملكة) العقل، تتجاوز جمهوريّة أفلاطون، والمدينة الفاضلة عند الفارابي.
في مغلّفِ فقيهٍ متزمت وجدوا: «سأقطع رؤوس الذين لايقولون بما أعتقده لأنهم كَفَرة، يُفسدون هواء خوابي السلف ، ويخرّبون عقول الأجيال».
لم تُعجبهم العروض المُضمَرة فخرجوا وقت السّحَرٍ، وعبروا قنطرة ( ساباط) قديم فشاهدوا مواطنا ، فظنّوا أنّه قد تأخّر عن موعد تقديم الاستمارة/ العرض، فاتّجهوا إليه، وصاح فيه كبيرهم :« هات ناولني ورقتك».
قال المواطن:« أنا لستُ مُستميرا »
حتى لاتزداد الخيبة قال له:» أكتبْ أيّ شيء،.. أيّ شيء، وناولني الورقة،
قال مُناورا:« أنا أبْصم »
قال له وهو يستعجله:» « أُبصمْ»
وضع المواطن بصمَتَه على ورقة بيضاء، وسلّمها ، كان الفجر قد بدأ يتنفّس، قرؤوا فيما وراء البصمة:» أرجو قبول استقالتي من مهام المُلك في مملكتكم الموقّرة، إذ لايصحّ الجمع بين مملكتين، إلاّ ماقد سلف، فأنا شاعر».
بعد أن انتهيت من كتابة ماهو آنف، أطلّ عليّ هدهد نفش ألوانه، ودرَج نحوي مختالاً وقال:» لماذا لم تذكر الغنّامين، والفلاّحين، وجامعي الخُردة، والذين هم بالليل قليلا مايهجعون من البرْد»؟!!
قلت بلهجة العارف:» هؤلاء يفكّرون بزوجاتهم، وأطفالهم، ورغيف الخبز، والمُلْك أكبر من هذا»،وعلتْ نبرة صوتي زاجراً:» ثمّ ماعلاقتك أنت ؟!! اذهب وابحث عن بلقيس أخرى..»
أردتُ أنْ أُخرج القلم من نوبة الكتابة، فأطلّت (هي) وقالت:» ماذا تفعل»؟
قلت:» مكتوب في لوح الاستخلاف، على البعض أن يخرجوا من نوبة ليدخلوا أخرى»
قالت:« في أيّ نوبة أنت » ؟
قلت:« في نوبة ( ن)، القوس في تجلّيه والنّقطة المُبهمة..، الشديدة السطوع، هي البدْء.. والختام …
عبد الكريم النّاعم

المزيد...
آخر الأخبار