يعترف الروائي الانجليزي (لورنس داريل) 1912-1990 بأنه لا بد له من أن يكتب لأنه يريد الحصول على مورد للعيش، وبأنه تسرع في نشر بعض أعماله للحصول على المال. ولكن هذا لا يعني أنه لا يجد في الكتابة متعة راقية، وبحسب تعبيره: (أفضل دائما الاحتفاظ بفكرة أن الكتب تشكل عملا تطهيريا، نوع من اليوغا، إجمالا، طريقة للسمو والتحرر). فالكتابة لديه لم تعد مهنة فحسب، بل صارت عملا محبوبا لذاته، إضافة إلى أنها تسد فراغا في حياة المؤلف: (ينبغي ملء وقت الفراغ). وضمن هذه المعادلة يعيش الكاتب المحترف حياة طيبة. ولكنها لن تخلو من المنغصات- كما في حياة كل البشر- فالحياة لا تسير بالطمأنينة ذاتها، فلم يعد (داريل) يكتب يوميا كما في السابق، والسبب: (قلت كل ما لدي. أنجزت أغلب الأشياء التي رغبت القيام بها). فالكاتب يصل إلى مرحلة تحول دون الاستمرار بالكتابة بالحماس أو الغزارة ذاتها، وذلك عندما يشعر أنه لم يعد لديه ما يضيفه، وهذه مأساة أدبية بامتياز.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن مزاولة الكتابة لسنوات تمكن الأديب من الكتابة بسرعة، ولكن دون ضمان النتيجة بالضرورة: (أكتب بسرعة. لكن ليس ضمانة الجودة). فالإتقان ليس مرهونا بالممارسة الطويلة. وهذا ما نجده لدى الكثير من الكتاب الذين لم يقدموا أفضل أعمالهم في سن متقدمة، وربما حدث تراجع مخز في أعمالهم الأخيرة. وهذه المأساة يعيشها الكثير من الأدباء.
***
الروائية الكندية (مرغريت أتوود) ولدت عام 1939 تجد أن المكان والزمان يفرضان شروطهما على المؤلف، وترى أن الترجمة لم تجعل التقاليد الأدبية واحدة في العالم لأن: (لكل عصر طريقة تعامله مع فن الرواية. وما يبدو مشتركا في هذا البلد لا يبدو كذلك في آخر، في الهند أو في إيران لديهم ميل للكتابة وفق الحكايات الفلكلورية. نحن نتعامل بما لدينا، فكوني كندية لدي ميزة التوفر على كل الأدوات الممكنة تحت تصرفي، لا توجد تقاليد أدبية كبيرة في كندا، وأبقى إذن منفتحة على كل أشكال الكتابة). وعندما تتحدث عن الرواية تختار الحديث عن القارة التي تعيش فيها لأنها أكثر إحاطة بمنجزاتها: (أقول بالأحرى إني أحاول أن ألقي نظرة جديدة على الأشكال القديمة، وأعيد النظر فيها. في كل الثقافات هناك فترات وكل واحدة منها تفتح نافذة، تضيء معطيات كانت موجودة سلفا لكنها كانت راقدة في الظلمات. في كندا وأمريكا خلال الخمسينيات كان الذكور يهيمنون على كتابة الرواية، ومن بعد، خلال سنوات السبعينيات ومع الحركة النسوية، برزت موضوعات كثيرة لم تكن تعتبر أدبا دخلت في بوتقة التخييل. مثلا الحياة اليومية للنساء). ولكن عندما تتجه إلى القارئ لا يعنيها أين يعيش على الأرض: (ليست لدي أية فكرة عنه ولا عن هويته).
وأغلب الأدباء يتوجهون إلى قارئ افتراضي، رغم أن مواصفات هذا القارئ غير ثابتة تماما، فكل كاتب يراه من زاويته الخاصة.
-4-
الكاتب الأكثر شهرة (ف. س. نيبول) والسبب نيله جائزة نوبل عام 2001. يتحدث عن طريقته في تجميع المعلومات لكتابة رواياته: (أسافر دوما بصحبة سترة ودفترين للملاحظات، الواحد على اليمين والآخر على اليسار. وعندما أصادف شخصا أسجل بدقة متناهية ما يقوله تاركا له مهلة للتفكير بعمق. أحيانا، أغير رأيي وأعود مرة أخرى لكن ذلك نادر جدا. كم هو مدهش ما يمكن تدوينه باليد خلال ساعة فقط! ثم أجمع الشهادات داخل الدائرة السردية. مستحيل أن أعمل بشكل آخر! إنها لحظات تركيز مطلق. أكون جد مركز إلى درجة أن الناس يقولون: لكنه لا يفكر سوى بنفسه!. لا، أنا فقط مهووس بالموضوع الذي أكتب عنه). ومع التقدم في السن لم يعد (نيبول) بهذا النشاط، فأمراض الشيخوخة حالت دون عمله لساعات طويلة كل يوم، ورغم ذلك يتمسك بالكتابة بكل ما تبقى له من طاقة بصفتها مصيره الذي اختاره بنفسه حتى يومه الأخير: (لم تعد لي طموحات أخرى غير الكتابة).
والتعلق بالكتابة والشغف بها يمنح الكاتب سعادة لا تضاهى، أما الذين يجدون صعوبة بالاستمرار في الكتابة فهم يعيشون حالات القلق المتعب كما رأينا مع غيره من الأدباء.
سامر أنور الشمالي