كان يحدثني وهو يضع التبغ في وريقة صغيرة رقيقة ثم يلفها بكلتا يديه ثم يبلل طرف الوريقة بلعابه فتصبح السيجارة جاهزة يضعها في فمه …ويتناول ولاعة الغاز ليشعلها ويأخذ نفثاً عميقاً …ويكمل الحديث :
(ماكنا في يوم من الأيام نشيح وجهنا عن زائر أو ضيف طارىء كانت الحياة بسيطة . وكان الناس على الرغم من شظف العيش يحملون مبادىء الحب والغيرة والتعاون . هل تعرف أن دارنا هذا ، الذي أضحى خراباً بعدما بنينا بيتاً حديثاً كان يمتلىء بالغنم والبقر والدجاج …. كنا كل يوم نجمع من الخم خمسين بيضة وأكثر .كان على أم العيال أن تحلب كل يوم صباحاً ومساء ثلاث بقرات وأربعين رأس غنم
..ولا تشكو ولا تتذمر ..!! بل كانت دائماً تحمد الله على نعمه فالخير وفير .. والمراعي تحيط بالقرية من كل جهة .
بعد وصول الضيف .. كان الأولاد يلقون القبض على ديك أو أكثر من الديكة .. لصنع الطعام . ما كنا في تلك الأيام نعرف هذا الدجاج الأبيض .. ولا كانت المداجن الحديثة منتشرة .. !!في كل بيت كان هناك تنور .. ما ألذ خبز التنور !!
والمونة من الحنطة نضعها كل صيف لمدة عام ..والطاحون ليست بعيدة . وعلى التنور كنت تسمع حكايات النسوة . فلان سافر للعمل في لبنان وفلانة تعشق فلاناً ابن فلان ، لكن أهله يرفضونها زوجة له . وفلان جاء اليوم في إجازة له رتبة عسكرية .
وكل فتاة في القرية تتمنى أن يتقدم لطلب يدها ..!!
بعد ثورة الثامن من آذار عام 1963 جاءت الحكومة إلى هنا ووزعت علينا سندات تمليك الأرض .. الإقطاعي لم يعد احد يراه والطريق الذي كنا نعزله سنوياً (لأوتومبيل) الإقطاعي صار بعد مدة طريقاً معبداً بالإسفلت ..!!
الدنيا تغيرت يابني .. الله يرحم جدك الذي أخذت اسمه كان شاباً عندما ترك القرية والتحق بثورة الشيخ صالح العلي عام 1919 لمحاربة الفرنسيين الغزاة .. وبقي طيلة عمره يتحدث عن الشيخ صالح وعن الثوار وعن المعارك ضد المحتلين الفرنسيين
توقف عن الكلام ورشف رشفة كبيرة من الشاي.
قلت له بتوسل هل تقص علي قصة ( جمل الإقطاعي )
ضحك وراح يسرد القصة :
( جاءنا الآغا بجمل وطلب من وكيله الاعتناء به .. وعاث الجمل فساداً وكان يتلف المزروعات .. ويخيف الصغار عندما يثور، اجتمعنا واتفقنا أن نشكو الأمر للأغا عندما يحضر من المدينة إلى القرية .
اجتمعنا حوله وقوفاً وهو جالس على أريكة في قصره .. قال بعبوس ماذا تريدون ؟!! . نظر كل منا للآخر .. يريده أن يتكلم .. صرخ الأغا …ماذا بكم ؟!! فتح أحدنا فمه وقال :
“ الجمل ..يااغا ؟!”
ماذا به هل حصل له مكروه ؟!!
“ لا والله ..ولكن يبدو وحيداً وحزيناً .. يحتاج إلى ناقة .. زوجة تؤنس وحدته ..وترافقه ..!!”
ضحك الأغا وقال : (هذا صحيح ..!!)
بعد أيام كان الجمل والناقة يسرحان ويمرحان في الحقول يعيثان لهواً وإتلافاً للمزروعات … ويخيفان الأطفال ..”
انتهى من حديثه .
لعل ختام هذا الحديث وما كان أيام زمان يذكرنا بقول أبي تمام :
ومضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام
عيسى إسماعيل