تصرّمَ منتصفُ الليل، كنّا أربعة، على الشّرفة نتسامر؛ أنا العبد لله، وزوجتي، وصديق وزوجته.. كنّا بِغاية السّرور. فجأة، قطع علينا موشّحَ سرورنا بكاءُ طفل، انهمارُ أنِينِه.. للتوّ، تطاولت أجسادنا، رمينا عيوننا إلى الشّارع العام.. رجل يحملُ طولاً خرافياً.. بقبضته الفولاذيّة، يجنزِرُ يدَ طفل، بثلاث أو أربع سنوات، بألمٍ وجيعٍ كان يبكي، مع شهقات وزفرات، لا يُحسَد عليها. الرّجل والطفل، يمتطيان الرّصيف المُضاء، المقابل لنا.. الرّجل الفظّ، ما يفتأ يضربه، يعنّفه: «اسكتْ يا كلب، يا حيوان.. اسكتْ وإلّا قتلتُكَ.. قلتُ اخرسْ»! بِكلّ خطوة أو أكثر، كان يكمُّ فمه وأنفه الصغيرين بِجُمْعِ قبضته الغليظة.. الطفل المغلوب، يحاول التملّص، كانت محاولاته ضرباً للهواء! للوهلة الأولى، خمّنَا، أنّ الرّجل يقتاده عُنوةً لأمرٍ ما.. الضيفة رجّحت أنّه، ربّما كان تائهاً عنْ بيته.. رأى أحد الزوجين، أنّ الرّجل، ربّما أراد إيصاله لأقرب جامع، لِيُنادَى عليه، كما جرت العادة! للتوّ، اندفعْتُ وضيفي، نريد بفضولٍ جمٍّ، تلمُّسَ ما يجري.. حين وصلنا للرّصيف المقابل للبناية، المجاور لسور الحديقة، أبصرناهما يدخلان بابَها المُتهتّك، كتهتّك السّور الحديدي! بهدوءٍ يشوبه قلقٌ وتوفّز، وقفنا خارجاً، خلف شجرة عتيقة، مُشبعة الأغصان، نراقب الموقف بعيوننا وآذاننا وقهرنا.. للتوّ دهَمَنا صوت نسائيّ مخنوق، لكأنَّه ناهضٌ منْ قاع بئر عميقة: «قلتُ اسكتْ يا كلبْ.. اسكت يا حقير.. الدّنيا صارت نُصّ ليل»! عقب الكلمات الجارِحَة، سمعنا ضرباً بالكفوف، تبعه توّاً بكاءٌ وعويلٌ، مصدرهما الطفل نفسه.. حين سرّحنا عيوننا، أبصرنا امرأة مُكتنزة، بوجهٍ متجهّم.. بعباءةٍ سوداءَ، كسواد لسانِها، فمُها يعتقل سيجارة، ينفث دخانها عالياً.. على المقعد الخشبي ذاته، ارتمَى الرّجل الصّلِف.. على العشب المُندّى، ينام طفلٌ بلا غطاء، بثياب رثّة، كأنّ المرأة والرّجل، تناسَيَا لسعات البرد الواخِزة، وما تفعله صيفاً بأوصالِ طفلٍ هزيلٍ مُسَجَّى! حَشْرَجَة الرّجل، لباسُه، تشِيانِ بأنّه منْ خارج البلد، أمّا صوت المرأة، فهو محلّي الصّنع، مع رطانةٍ واضحة، تَشِي بأنّ وراءه عقلاً سَخيفاً مُتصحِّراً.. قلتُ بِسِرّي: «الأوْراق اختلطت»! بترقّب نظر صاحبي، نظرتُه بعينين حائِرَتَين.. كأنّ سؤالاً مُوحّداً، اندلقَ بلسانينا: «ماذا نفعل»؟ بكاء الصغير ما فتىء أنينُه يتعالى، بهذا الليل السَّاجِي، المُضمّخ بوخزات بردٍ خفيّة.. صوت المرأة البذيء الخشِن، ما يزال مُهدّداً إيّاهُ بالقتل والحَرْق، إنْ لم ينم.. الرّجل الخرافي، صامت كصخرة، يتربّع على أعصاب متوترة، الطفل الحزين، لا يزال العشبُ قابضاً عليه بِكلّابتيه، يمضغه بردٌ خرافيّ، يزحف كثعبانٍ مُخاتِلٍ! فم المرأة، لا يزال يمتصّ «النّيكوتين» المُؤذِي.. كانت ترسل سهام نظراتها للطفل، الذي صمت، بعدما أعياه صَخبُ الضّرب، ومَطرُ الدّموع! قال صاحبي: «هل ندخل، ونتدخّل»؟ باستجابةٍ عفوية أجبتُ: «ندخل، وربّما تدخّلْنا»! بالقرب منْهم، تثاءَبَت أقدامُنُا، تتهادَى فوق أسلاك قهرنا.. الطفل الذي صمتَ، رمانا بنظرات حَرَّى، يستجدي غَوْثَنا، قال الضيف: «أتظنّ، أنّ صمته جاء احتراماً لنا، وللعيون التي شَرَعَتْ تبزغ من النّوافذ والشّرفات»؟ بامتعاضٍ مَشُوبٍ بملوحة بَحْريّة، قلت: «بل صوت المرأة الخَشِن، وبذاءة لسانها، سبَّبَا هذا الانتشار المفاجِىء»! نمشي الهُوينَى، نفكّر بالضّرب المُبرِّح الذي كان الصغير يتلقّاه.. الحديقة بدَتْ لعيوننا، مُمتقعة الألوان، صحراء مُترَاحِبة.. العشب الليلي كان مُندّى، المقاعد الأخرى خالية، بعصبيّةٍ، تنفث المرأة دخان سيجارتها الثانية، أخفت وجهها، حين تهادت أقدامنا، قريباً منهما.. الرّجل، لا يزال يرقبنا بطرفٍ خفيّ! «الجلسة مُرِيبة، الوقت نصّ ليل، زيارة الحديقة الآن أمرٌ استثنائي»، بامتعاضٍ، قالها الضّيف! لمّا تيقّنا، أنَّ البكاء، جفَّ نبعُهُ، دفعنا جسدينا، شطر البناية، بلهفةٍ تنتظر الزوجتان سَرْد الحكاية! لضيفي تركتُ الحديث.. وما هي إلّا دقائق، حتى سمعنا مجدّداً، بكاء الصّغير، نتيجة ضرْبه بصفعاتٍ مسموعة، تعقبها كلمات بذيئة خبيثة.. صوت المرأة الخشِن، ظانّةً أنّها ببريّةٍ واسعة، وأنّه لا أحد يسمع صدى ضرباتها، وبذاءات لسانها الخبيث، فالطفولة بفلسفتها شيءٌ منْ سَقَطِ المتاع! أرسلنا عيوننا إلى المكان، إلى الشّرفات، رأينا كثرةً من الجيران، أضحت مشاعرهم – كمشاعرنا – مغناطيساً للأصوات، مبعثاً للتّأسِّي! شهقات الصغير، كانت تنفذ للقلوب الحيّة، تمزّقُ سِحرَ الليل، أصحابَ القلوب البيضاء، «يعلن التوبة، أنّه لن يبكي»، وأنّه سينام جنب أخيه بالحال، شرْط أنْ يرفعا أيديهما الغليظة عنه! الضيفة «صفاء»: «الأم الحقيقية، لا تأتي بولديها إلى حديقة عامّة، بهذا الهَزِيعِ البارد، من الليل»ّ! صاحبة البيت «غيثاء»: «أيُعقَل، أنْ تترك أمٌّ ابنها نائماً على عشبٍ مندّى، بلا أيِّ غطاء؟ ألا نشعر بلسعات برْدٍ صيفيّ، مع أنّنا نرتدي ثياباً سميكة، لِحدٍّ ما»؟! «تدخّل الضيف «هدّار» مشاركاً: «المسألة، فيها إنَّ، وأنَّ، ولكنَّ..»! «مرهف»، صاحب البيت: «على ما يبدو، الطفل أزْعجهم، لأنّه ظلّ مستيقظاً، جاؤوا إلى هنا، عسى هواء الحديقة، يُهدهد له فينام»! بعد هدوءٍ باصِمٍ، انتهت سهرتنا… مُودِّعاً هبطتُ الدَّرج مع الضّيفين، رمينا عيوننا إلى عينِ المكان، نَرنُو المقعدَ الخشبيَّ ذاته، تلكَ المِساحة المُندّاة قربه، كان كلّ شيء خالياً، إلّا منْ سمفونية بكاءٍ مُوجِعَة، كانت بقوّةٍ، تنفذ إلى أحاسيسنا، وأشغفة القلوب، بينما ساعاتنا، كانت تشير إلى الثالثة فَجْراً…
وجيه حسن
المزيد...