«رؤى» الرواية الأولى للدكتورة ابتسام العيسى وهي من مواليد حمص 1966حاصلة على إجازة في الأدب العربي من جامعة البعث, حصلت على الماجستير والدكتوراه بجامعة فيينا قسم الدراسات الشرقية في النمسا, دفعها ألم الغربة لخط حروفها بعملها الروائي الأول «رؤى».. تقع الرواية في 200صفحة من القطع المتوسط صدرت عام 2019,ضمنتها الكاتبة 12 فصلاً كل فصل معنون بحسب تطور قصة حياة بطلة الرواية رؤى في روما وهي المهندسة الزراعية التي تعمل في منظمة الأمم المتحدة «الفاو» منحتها المنظمة فرصة إدارة مكتبها في روما فتركت عملها في دمشق وتركت عائلتها المكونة من ستة أولاد خمس بنات وصبي لم يبلغ فطامه بعد تروي الكاتبة ,وذلك هرباً من زوج ما فتئ يحبطها ويسخر منها دافناً أي طموح في داخلها .
ضمير المتكلم في الرواية تارة على لسان الروائية وتارة على لسان البطلة رؤى إذ يتبدل ضمير المتكلم برشاقة لا تشعر القارئ بذلك وهذا دليل تمكن الكاتبة من أدواتها التقنية في الكتابة فأسلوبها واضح ولغتها رشيقة تجعل قارئها يقفو أثر امرأة في بداية الخمسينات من عمرها لا تزال معالمها تحتفظ بجمال يعززه طموح في التفوق والنجاح على الصعد كافة سواء الأسرية أو على صعيد العمل ,وتعشق في غربتها رجلاً في نهاية الخمسينات من عمره اسمه نبيل وكلاهما يعاني من طلاق عاطفي مع شريكه ضمن الأسرة وبينما يبحث نبيل عن حب مختلف يعيد له حلمه القديم بشريكة من نوع آخر رغم زواجه التقليدي من سلمى المرأة الشرقية المتفانية في خدمة عائلتها في الغربة لكنه يرتبط بحب مع بطلة الرواية رؤى الهاربة من زوج وصفته بـ(الديك المستقيل في حياتنا الأسرية) ص 59.
ويمتد زمن الرواية من قبل الحرب بسنوات بسيطة حتى اشتعلت الحرب في سورية ونهاية الرواية بقرار البطلة عودتها لعائلتها الصغيرة ولأبنائها دون زوجها ولعائلتها السورية وانغماسها في ترميم ما فاتها على الصعيد العائلي وعلى صعيد المجتمع بالمساعدة في إغاثة المهجرين ومساعدة اليتامى والأيامى في هذه الحرب .فتوضح لنا الروائية في الفصل الأخير من الرواية كيف كان استقبال زوجها لها فيسألها في ص 174 :كيف جئت؟…ولماذا لم تخبريني؟ فتجيب رؤى أن لم أرجع إليك أنت ,أنا رجعت إلى هؤلاء بناتي وابني ,هدية الخالق لي ,إلى بيتي الذي صرفت فيه سنين شبابي وشهد على خيبات أملي معك وكم أتمنى ألا تراك عيناي هنا .وتضيف في ص 175:»عليَّ ألا أدع الشمس تغرب عن أسرتي وأن أكون سماء هذا البيت وأرضه » .
ونفهم من خلال الرواية أن سبب عودة البطلة إلى بلدها وأسرتها هو انتصار الكاتبة للأمومة وتغليبها على المصلحة الشخصية للمرأة وكذلك هو شعور المسؤولية تجاه وطن بدأت الحرب تنهش اوصاله رغم أنها لم تنفك تشارك في حملات التوعية في روما وغيرها من الدول الاوربية لما يحدث في سورية ولما يمارسه الإعلام المضلل من طمس حقيقي لكل ما يجري لصالح الماكينة الإعلامية الغربية التي خاضت حربا قذرة ضد سورية إلى جانب الإرهابيين لغايات معروفة .وتبين لنا سوء المعاملة الذي تلقته البطلة من زملائها في روما وكيف أنهم لم يجشموا أنفسهم عناء سؤالها عن بلدها وعما يجري فيه فتقول على لسان الروائية واصفة حال بطلتها رؤى في روما بعد اندلاع الحرب في سورية:في الصفحة 126»كان ألمها كبيراً من عدم سؤال بعض أصدقائها الإيطاليين الذين احتلوا مكاناً في نفسها ,فلم يهتموا لأمرها باستفسار لو صغير عن بلدها أو أسرتها أو حتى مشاعرها إزاء نزيف الدم المستمر هناك مما زاد من مكابدتها ,وشدها إلى حيث يجب أن تكون فكانت تعزو ذلك لشعورهم بالفوقية» وهذا مما جعلها تتخذ قرار العودة .
حال سورية قبل الحرب وبعدها
تصف الروائية رحلة العودة إلى دمشق عندما حطت الطائرة في مطار حلب الذي لم يسلم من يد الغدر لكنه لا يزال صالحا لهبوط الطائرات وإقلاعها فتقول في( ص 169) نظرت رؤى من نافذة الطائرة فرأت مدينة تصرخ للعالم حسبت أن هزة أرضية خلخلت كل ما ظهر للعيان على وجه هذه المدينة فسألت بدهشة لا فتة الشخص الذي جلس بجانبها :هل كان لأحد ما ثأر مع هذه المدينة ثم تسهب في وصف مدينة حلب قبل الحرب ووصف أهل حلب بعدها فتقول: لقد صهرتهم المحن فراحوا يتحدون كل من أراد شراً ببلدهم ,لأنهم يؤمنون أن من حقهم وحدهم بل واجب عليهم ,خط أسطر الانتصار فوق أرضهم.وبعد أن تصل البطلة إلى دمشق وتبدأ في وصف ما آلت إليه المدينة من خراب ودمار بفعل الحرب تقول واصفة الإرهابيين بالظلاميين في ص 179:(يحركهم حقدهم الذي يتغذى على جهلهم فيذهب بهم إلى تطرف أعمى يتحكم بعقولهم وحواسهم التي باتت تنطق ببدائية ووحشية لا ترتوي,وأحيانا تحركهم أجور عالية قدمت لهم سلفاً ,ليعيثوا في الأرض خراباً ).
ثقافة عميقة
نلمس عمق ثقافة الروائية واطلاعها على تفاصيل التاريخ في بلاد الشام واطلاعها على تاريخ روما, فتسرد لنا قصصاً شيقة مستقاة من التاريخ, فتشير الكاتبة لحضور حضارتنا وبصماتها في ذلك الركن من العالم, فتراه جزءاً من تاريخنا في شرق البحر المتوسط, ونلمس اهتمامها بالأساطير اليونانية مثل سيزيف مما يدل على سعة ثقافتها وعمق وعيها, وترصد بشفافية بعض نشاطات الجالية السورية وانعكاس الحرب عليهم وتحركهم لمؤازرة الوطن الأم سورية. فرصدت الوجه المضيء للمرأة السورية الحاصلة على المؤهلات العلمية في المغترب كيف حققت ذاتها ونجحت, وبرغم الخيارات المفتوحة أمامها إلا أنها حافظت على انتمائها ومبادئها التي تربت عليها برغم ما تعانيه من ضغوط اجتماعية وعاطفية, وفي نهاية العمل انتصرت المرأة الأم ذات الانتماء الوطني على ذاتها وعلى أنانيتها لتعود وتحتضن أطفالها ولتشعر بدفء الوطن. وتميزت لغة العمل بالجزالة والقوة فكانت لغتها راقية وتميزت بغنى مفرداتها ما يدل على امتلاكها مخزونا ثقافيا مميزا..
هنات
مع جمالية العمل وخصوبته ونبل هدفه لا يجدر بنا التوقف عند الأخطاء اللغوية على قلتها ولكن لا بد من ذكرها لمحبتنا للنص الذي نتمنى أن يتم تلافي الأخطاء فيه في الطبعات التالية ومنها (الاختان التوأمان) في الصفحة 172والصحيح أن تكون الهمزة على السطر وكذلك استخدامها لكلمة سنين في ص 175 «صرفت فيه سنين شبابي» والصحيح سني ّشبابي بحذف النون وكذلك سرقوا أجمل سنين حياتي في ص 164 والصحيح بحذف النون أيضا كما يوجد استخدام لبعض المفردات الغير مستخدمة حاليا مثل جمع كلمة ريح بلفظة أرياح ص 160وغيرها من الألفاظ الأخرى ولكنها لم تفقد النص جماليته ولم تؤثر على رغبة القارىء بالتعرف على نهاية قصة حياة رؤى وهذا دليل على تمكن الروائية وأسلوبها الممتع ,العمل الروائي «رؤى» جدير بالقراءة وجدير بالاقتناء .
ميمونة العلي