سورية الحبيبة والدواء

حمداً لله رزقت بطفلة ثانية بعد سنوات طويلة أمضيتها في المعاناة مع طفلتي الأولى كان الفرح كبيراً و عامراً في بيتنا . صافحت زوجتي وضممتها إلى صدري قلت لها : إن الله عطوف رحيم كم عانينا حتى أنعم الله علينا بطفلة معافاة سليمة كم صليتِ وصليت ، كم دعوتِ ودعوت حتى أتانا الفرج ، كم تقلبت في الفراش والنوم يهرب منّي ، كم سنة عشنا في عذاب مرير . هاهو الفرج يقرع بابنا ليطل الفرح إطلالة مشرقة .هاهي بشائر السلوى والسعادة تعود إلينا من جديد ،قصتي يا أحبائي طويلة ومرهقة .
بدأت أولها في عذاب دام سنوات طويلة فقد كنت صغيراً عندما هجّرنا العدو من ديارنا تركنا كل شيء فيها ، تركت أرجوحتي ولعبتي ، تركت شجرة الليمون والياسمين بكيت مع أهلي طويلاً ، تركت يافا الحبيبة ، وكلنا حنين إلى لقياها ، أخذت مني أحلامي وآمالي وكل شئ جميل ، تركت ذكريات الطفولة التي لا تنسى أبداً مع أطفال يافا . لجأنا إلى سورية الحبيبة التي كانت الوطن الثاني لنا ، أعطتنا كل شيء ، لم تفرق أبداً بيننا وبين أبنائها . كانت لنا المجير والملاذ ، الوطن والأم كانت كل شيء لنا ، عشنا في كنفها ننعم بخيراتها نتفيأ تحت محبتها ونكبر بحنانها علينا ، أصبحت جزءاً منها ، ابناً من أبنائها البررة .
درست في مدارسها حتى وصلت إلى المرحلة الثانوية تفوقت لألتحق ببعثة للدراسة على نفقتها بهندسة الطيران ، كانت الدراسة في الولايات المتحدة . تخرجت ضمن المدة المحددة لي لأعود إلى بلدي سورية كي ألتحق بشركة الطيران السورية لأمارس وظيفتي على خير ما يرام . تعرفت على فتاة سورية تزوجتها فكانت الحبيبة والصديقة الأخت والأم والزوجة سعادتي بها لا توصف . جمعت معها القليل من المال واشترينا بيتاً مريحاً في إحدى ضواحي دمشق ، عشت بسعادة حقيقية مع زوجتي وأهلي وأصدقائي .
أنجبت زوجتي طفلتنا الأولى ثمرة الحب الذي بيننا ، كبرت الطفلة أصبح عمرها سنتين ثم توقف نموها ، مرت السنوات والطفلة بقيت صغيرة بقي عمرها العقلي سنتين فقط ، تحولت سعادتنا إلى تعاسة لم نترك عيادة طبيب إلاو قرعناها كان الأمل في شفائها مستحيلاً . وأنا بحكم وظيفتي كمهندس في شركة الطيران السورية بدأت أسأل في كل بلد بعيد عن علاجها ولكن لم أفلح . وأخيراً توصلت إلى عنوان طبيب في نيويورك سافرت إليه وكان على الطبيب أن يحقنها بأبر حتى تشفى أما سعر الحقنة فكان فوق طاقتي ورغم كل التبرعات والهبات من الأهل والأصدقاء إلا أن العلاج يكلف ما لا طاقة لنا به ..وقعت في حيص بيص من أمري حتى اقترح عليّ بعض زملائي أن أعلن عن مشكلة مرض طفلتي في الصحف الأمريكية عسى أن تتبرع إحدى المستشفيات لعلاجها مجاناً . وما إن كتبت الصحف عن حالة ابنتي حتى عرض عليّ أكثر من مشفى علاجها مجاناً لكن يا للأسف كانت إدارة هذه المستشفيات عنصرية صهيونية ، وأنا الفلسطيني الأصل المهجّر السوريّ الجنسية لم تسمح لي قيَمي ولا أخلاقي ولا وطنيتي بقبول هذا العرض المضمخ بالذل ومنذ ذلك الحين.. وقعت في الهم والحزن واسودت الدنيا في وجهي . كان زملائي وأصدقائي ينظرون إليّ نظرة حزينة منكسرة ثم ينصرفون عنّي متنهدين . بعت بيتي وكذلك فعل والدي ولكن مدة العلاج . طالت ولم يكن هناك تقدم في حالتها .
بدأت أقرأ كل ما يتعلق بمرض ابنتي من أبحاث ودراسات حتى عثرت على حالة تشبه حالتها, إلا أن العلاج يعد مغامرة وهو مبني فقط على الحالة النفسية للطفلة عدت إلى دياري أحمل ابنتي وبعض أمل بعلاج يعتمد على الروحانيات والطب النفسي ..عشنا فترة نعاني من تقدم بطيء جداً في حالتها ثم ببعض الاستجابة للعلاج الذي عادت ابنتي لتلقيه على يد الأطباء السوريين هنا في البلد الذي احتضنني مع عائلتي مهجرا يوما ما عاد ليحتضن طفلتي المريضة ويمنحها العلاج شبه المجاني ثم كانت المفاجأة الكبرى باستجابة ابنتي لعلاج طبيب شاب قدم من خلال حالة ابنتي رسالة الدكتوراة وكانت هذه هي الحالة الاولى التي تستجيب فيها طفلة تعاني من نقص نمو لعلاج من اجتهاد طبيب سوري ,وقد حصل هذا الطبيب على شهادة تقدير عليا بسبب إصراره على الاستمرار في تقديم العلاج دون ملل . و شفيت ابنتي تماماً . وعادت حياتنا كما كانت هادئة سليمة يضمنا الحب في أحضان سورية الحبيبة، ورزقني الله بطفلة ثانية سليمة معافاة جاءت كهدية سماوية تكريماً لصبري واستمراري دون أناة في علاج ابنتي الأولى.
خديجة بدور

المزيد...
آخر الأخبار