احترامُ المُسْتمِعين !

هل بيننا مَنْ ينكر، أنّ الإعلام المعاصر، بمختلف قنواته ومحطّاته، لا يزال له دور كبير بتثقيف المجتمع، وتوعيته على الصّعد كافة؟ وهل مَنْ ينكر أو يتجاهل، أنّ الثقافة “هي الهيكل الأساسي للحضارة، بمختلف أشكالها وعناوينها”؟ أليست منهجاً وطريقة حياة؟ وهل بِنْيَة أيّ مجتمع، تقوم على أرضيةٍ اقتصاديةٍ أو اجتماعيّةٍ أو سياسيّة، بعيداً عن البيئة “الفكرية ـ الثقافية”، التي لا يستغني عنها أيّ مجتمع، ليكون مجتمعاً مُزدَهراً مُعافَى؟ وهل فينا مَنْ يغمض عينيه، ويصمّ أذنيه عن الحكمة القديمة، التي لا تزال تحتفظ – حتى الوقت الرّاهن – بقيمتها وصدقيّتها: “ليسَ بالخبز وحدَه يحيا الإنسان”؟ و “إذا كانت الحروب تبدأ بالأفكار، فكذلك الهزائم تبدأ هناك”، على حدّ قول د. شاكر مصطفى..اعتماداً عليه، فإنَّ المثقف الحقيقيّ، يعرف من نقطة الوعي، أين تكون مصادر ثقافته، بأيّ كتاب، بأيّ مرجع أو مصدر، بأيّة دراسة تاريخيّة أو تراثيّة أو أدبيّة، بأيّ كتابٍ فكري أو علمي أو فلسفي أو سياسي، فهذه جميعاً بوابات مضيئة من بوابات الثقافة الحيّة. من هنا، فإنّ الحياة الثقافية الحقيقية، ليس مصدرها المسلسلات التلفزيونيّة بالأساس، ولا الجريدة اليوميّة، والبرنامج الإذاعيّ، والمجلة الأسبوعية أو الشهرية، أو .. أو .. مصادر الثقافة الحقّة، هي “الكتب” الجيّدة الغنيّة الدّسِمَة، بالمقام الأول، وكذا الروايات الفذّة، والقصص الجميلة، والشّعر البديع.. ما أظنُّ أنّ أحداً ما، ستكون ثقافته من الأجهزة الإعلاميّة وحدَها، تلك التي تسرق الوقت، وتحاول أنْ تغطّيَ الدّقائق، المثقف الحقيقي، لا يلتفت لِمثل هذه، التفاتته لِمصادر الثقافة المُثمِرة.. في اليقين، فإنّ غالبيّة المثقفين بوطننا العربي، لا يسمعون إذاعاتٍ، ولا يشاهدون التّلفاز بشكلٍ إدمانيّ، كما يفعل أنصافُ المثقفين، أو أرباعُهُم، وإنّما تقرأ تلك الغالبية الأخبارَ اليوميّة، أو يسمعون النّشرات الآنية السّاخنة، لِمُجرّد معرفة الأحداث اليومية ، بأرجاء المعمورة المُتراحِبَة..
الحقَّ، فإنّه لا حَظّ لأيّةِ ثقافة، إذا لم تؤازِرْها أجهزة الإعلام كافّة، ولم تعرّف بما اهتدَتْ إليه منْ وجوهِ الخَلْق والإبداع، كما أنّه لا سبيل أمام أجهزة الإعلام للنجاح، منْ دون زادٍ ثقافيّ حقيقيّ، يشدّ اهتمام الجمهور إليها، ويسمح لها بإبلاغ رسالتها إلى مختلف الميادين.. لكنْ، ماذا عنْ هذا الصّندوق الخَطِر، الذي ندعوه “التلفزيون”؟ الكثيرون يجلسون أمامه ساعاتٍ طويلة، بِقلقٍ وانفعالٍ غريبين! السؤال: هل تذهب صورُه وإيحاءاتُه وسلوكاتُه في الفضاء، هكذا بلا طائل؟ خاصّة بالنسبة إلى الأطفال الأبرياء، أو بالنسبة إلى شريحة المراهقين، من الجنسين؟ وتُملأ البرامج بمعظم القنوات العربية بالغُثَاء، الذي نُسمّيهِ حِواراً، ودراما، وبرنامجاً، ومسلسلاً، ومسرحية، وأغنية رَخيصة، لِمطربٍ أرْخَص! وهناك برامج لا تُغنِي ولا تُسمِن، ليس فيها إلا غُثَاء السَّيْل… لقد أصبحت الوُجهة الإعلاميّة “الجديدة جدّاً”، تعتمد على برنامج الدّقائق الخمس، أو برنامج الدقيقة الواحدة، وتعتمد على الطرفة السّخيفة، أو الإفلاس الغنائيّ، فلقد أصبح واضحاً بأنّنا بالأعمّ الأغلب، لم نعدْ نسمع بعد سيّدة الغناء العربي “أم كلثوم”، مغنيةً ذات طرب أصيل، وذات إثارة في الرّوح، ولم نعد نسمع بعد عظمة “عبد الوهاب”، أغنية ذات حضورٍ، نجري وراءها، نتتبّع سماعَها إلّا بالنّادر، هذا على سبيل الإيجاز، ناهيكَ عنْ كَمِّ الأغاني الهابطة، التي تخرّب الآذان النّظيفة الرّهيفة.. إذاً هناك إفلاسٌ حقيقيٌ بادٍ للعيان، للقلوب، للأحاسيس. ولسوء الطّالِع، فإنّ إذاعاتِنا العربية، أصبحت تعتمد على الأغاني التي استُهْلِكَت، والتي تعدّدت أماكنُها.. ففي السّابق، كان الإذاعيّون يعتبرون، أنَّ الأغنية مادّة ترفيهيّة لأجل البرنامج السياسي، أو لأجل البرنامج الثقافي، أمَّا راهِناً، فقد أصبحت الأغاني مادّة أساسيّة، يقدّم المذيع أربع أو خمس أو ستّ أغنيات، يسمّيها “منوّعات”، أو “مختارات”، أو يقدّم برنامج “ما يطلبه المستمعون”، أو “ما يطلبه الجمهور”، أو “ما يطلبه المُتعطّشُون”! معظم هذه الأغاني، ليس فيها إبداع حقيقي، لأنّ الإفلاس في إبداع الأغنية سائرٌ كالإفلاس بِسائر النواحي الفنيّة والدّراميّة، والسّبب، أنَّ الأغنية لم تَعُدْ مادّة ترفيهيّة، وبالتّالي تعدّدت أماكنها، فهناك “الفيديو، والاستديوهات، وهناك الفيديو كليب… إلخ”! من هنا، ينبغي أنْ تعتمد الإذاعات على برامج ثقافيّة غنيّة، والخطر كلّ الخطر، ليس في هذا كلّه، وإنّما هناك “خطورة عدم الفهم”، وهنا تكمن الطامّة! وهناك مَنْ يقول بِبساطة واستسهال: إنّه لا تصلح للجماهير إلّا هذه “البرامج الهابِطة”، وهذه “الأغاني المتدنّية”، ذات الإيقاع السّريع، ويبرهنون على هذا باندفاعٍ منقطع النظير، بأنّنا نعيش عصر السّرعة: عصر “البَتْزَنَة”، و”الهَمْبَرَة”، و”المَكْدَنَة”، و”الأنْتَرَة”، و”الفكْسَنَة”، و”التّوْتَرة”، ثمّ يظنّون ـ وَهُمُ الواهِمُون ـ أنّ الجمهور الواسع العريض، يقبل مثل هذا النّوع من العِلل والعَاهَات، من دون أنْ يفكروا “بأنّ في المجتمع أناساً أنقياء بقلوبِهم، أسوياء بعقولِهم، أصحّاء بأسماعِهم، وأنّ بالمجتمع مَنْ يقرأ الكتب الرّاقية الغنيّة، التي تفيده، وتفيد وطنه معاً”.. الحقَّ: هناك الكثيرون، الذين يسمعون الإذاعة المرئيّة، والإذاعة المسموعة، ويدركون بحسٍّ عميقٍ صادق: “أنّها ستفقد قيمتها، إذا لم يكن عندها أجهزةٌ أثقفَ منْ تلك التي في المجتمع”، على حدّ تعبير الشاعر اليمانيّ المرْحوم “عبدالله البردّوني”! إنّ صُنْعَ غدنا العربيّ المأمول، سيكون بناءً هشّاً من القشّ، إذا لم يقمْ على قاعدةٍ “فكريّة ـ ثقافيّة ـ صُلبة”، من باب ضمان “الأمن الثقافيّ” للمجتمع، حتى لا يبقى ضحيّة “الغزو الثقافيّ – الفكريّ” الغربي، وحتى يتزوّد إعلامنا بمختلف مفاصله وقنواته، بالهواء النقيّ، الذي يقيهِ شرَّ الاختناق، وخطرَ العواصف الهوْجاء، والتيّارات الهدّامة، تلك التي تهبّ عليه صباح – مساء،.. السّؤال: هل منْ تطلّعاتٍ ناجِعَة، تريح القلب والعقل، وعَصَبَ الرّوح؟!

وجيه حسن

المزيد...
آخر الأخبار