تحية الصباح .. في بناء الإنسان

أوصى لقمان الحكيم «ع» ابنه فقال:» يابنيّ جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإنّ الله يُحيي القلوبَ بنور الحكمة، كما يُحيي الأرض بوابل السماء»، للتوضيح لمن لايعرف نقول إنّ لقمان ع نبيّ من أنبياء الله، وهو لدى بعض الدارسين التاريخيّين « أحيقار الحكيم» الذي ملأت شهرته آفاق بلاد مابين النّهرين، بما تركه من حكمة ق.م.
الكلام موجَّه بالدرجة الأولى للذين يقرؤون مانكتب من أبناء الأجيال التي نسمّيها صاعدة، أمّا الذين لايقرؤون حتى دروسهم المطلوبة فأولئك من رعيل الخراب، لأنّهم يساهمون بشكل ما في خراب أنفسهم وأهليهم، وفي تدمير الوطن، وبذلك تتراكم الكوارث وتتعاظم.
نصح لقمان ابنه بأن يُزاحم العلماء بركبتيه، كناية عن أن يكون قريبا منهم لدرجة مُزاحمة الرّكب، فلم يكونوا في تلك الأزمنة يجلسون على المقاعد كما هو الحال الآن، بل هم يجلسون فوق الحصير، أو السجّاد عند ذوي اليسار، وربّما جلس بعضهم على الأرض المُتْرِبة، يجلس (العالِم) في المسجد غالِبا، ويقصده أصحاب العلم، وطلاّبه ، ويلتفّون حوله، هذا كان قبل إنشاء مايشبه الجامعات، ولقد خرّجت تلك المجالس علماء أفذاذا، وهذا شيء يجهله معظم أبنائنا للأسف، فقد كانت المساجد في دمشق، والكوفة ، والبصرة، وبغداد، وصنعاء، والقاهرة، والمغرب العربيّ، وفي كلّ المدن العربيّة الإسلامية،.. كانت بؤرة إشعاع، وتثقيف، وحضارة، لاكما أرادها التكفيريّون بؤرة تحريض، وإثارة ضغائن، وإشاعة للحرائق.
في هذا السياق نشير إلى أنّ عددا من العلماء كانوا جامعات متنقّلة، فهم يدرِّسون الفقه، والحديث، وأيام العرب، وعلم العروض، والفلك، والطبّ، وشتى صنوف مايطلبه الطالب الرّاغب، وغالبا ماكانوا يفعلون ذلك ابتغاء ثواب الله، ولا يتقاضون أجراً، ولئن كان بعضهم قد وصل إلى مجالس بعض الحكام والأمراء فأفادوا من أموالهم، فثمّة مَن لم يعرف تلك النّعمة الهابطة من القصور العالية، ف «الفراهيدي»، – كمثال ليس إلاّ- واضع علم العروض، فيما رُوي، أنّ معظم طعامه كان الخبز ملْتوتا بالزيت، أمّا «التوحيدي» فقد لازمه سوء الطالع، فرغم علومه المتعدّدة، كم شكى من ضيق الحال، وحين يئس من استجابة المستجيبين جمع كتبه وأحرقها، وما وصلنا إلاّ أقلّ القليل، الذي ينبيء عمّا أحرق من فرائد، وشاهدُنا كتاباه الشهيران « المقابسات»، و» الامتاع والمؤانسة» …شكى من مرارة دهره وعُسره، وهو الذي كانت المجالس تزدهي بحضوره، ..هذا يشكو من قسوة الزمن في العيش، وفي بلاطات تلك القصور كان يجتمع المهرِّجون، والمشعوذون، … هؤلاء يتقلّبون في بحبوحة العيش، والفكاهة، والمجانة، وأمثال أبو حيان التوحيدي، لايجدون مايكفيهم في مواجهة العيش!!
الآن يبدأ التلميذ رحلة التعلّم منذ السادسة، فإذا نجح في كلّ عام حتى يتخرّج من الجامعة فهو يحتاج إلى خمس عشرة سنة، ومثل هذه المدّة كان البعض ، قديما، يمضيها في خدمة مَن يأخذ عنه العلم، ليصل إلى واحد من تلك الصفوف التي تطمح إليها القلوب والعيون، فكم هو عدد النّابهين نباهة مَن قرأنا عنهم؟!!
لستُ رجعيّا، ولا أقول أنّ مَن سبقنا كان خيرا منّا في كلّ شيء، بل أرجّح أنّ العلّة كامنة في المنهج، وفي التخطيط، وفي حسن الإدارة البشريّة، وفي أمانة بعض مَن يُعهَد لهم بذلك، ولسنا أقلّ من غيرنا من شعوب الأرض ذكاء واستيعابا، ولكنّ مَن وصل أجاد الإدارة البشريّة، أمّا في وطننا العربيّ، فالغالب عليه أنّه أقلّ بكثير ممّا يُعوَّل عليه.لاشكّ عندي أنّ بناء الانسان هو الأساس في أيّة نهضة نطمح إليها، …
عبد الكريم النّاعم

المزيد...
آخر الأخبار