قصة .. حروف مضيئة…

طاعنة مثل جذع عتيق… البنت الوحيدة «نور»، التي تخرّجت في الجامعة، أرادت أنْ تعيد لأمّها نعمة «البصيرة»، هذا حلم عزيز، لطالما أرادت تحقيقه على أرض الواقع. قدّمت إليها «كتاب الحياة والنّور»، تلمّست الأمّ حروفه.. تساؤلات غزيرة، عصفت بعقل الأمّ الأُميّة، غرسَت «مخالبها» في (لحم) الذاكرة، حاولت التملّص من الموقف العَصِيب، لكنّ نبضاً مباغتاً شدّها إلى عجينة الأرض… بلغة اليأس قالت:
ــ يا بنتي، غربتْ شمسي، صرتُ بخريف العمر، بحيطانِ الستّينات، دخلتُ بسباقٍ مع حُسْنِ الختام، الله يرضى عليكِ، اتركيني بِحَالي!
ــ لكنّها فرصة ذهبيّة يا أمّاه، الفكرة اختمرت برأسي من سنوات، الآن جاء وقت التنفيذ.. أرجوك.. هذا فرضٌ عليّ، وأكثر من واجب.. بل هذا أقلّ القليل من الديون في عنقي!
لملمت العجوز نفسها، شردت إلى البعيد، استحضرت بلحظاتٍ سانحة جبلاً من ذكريات الأمس، تذكّرت «كيف أنّ القرية النّائية، لم يكن فيها مدرسة، بذلك الزّمن الغابر، وأنّ أبويها كانا أميّين تماماً»، قالت لابنتها:
ــ يا «نور»، لم يعد هناك عمرٌ يستأهلُ التوبة، هأنا بلغت الخامسة والستّين، أرجوك أرِيحِيني، أرِيحِي نفسك، الله يستر عليك!
ــ أمّي حبيبتي.. أمور بسيطة، كلمات سهلة، «حروف مضيئة».. يا غالية، أصلحي ما فات، إنّها أمنيتي منذ زمن بعيد، لا تقتلي رجائي، وفرَحَ قلبي، أرجوك..
شاردة الذّهن كانت الأمّ.. تفكّر بكلمات ابنتها الجامعيّة، تحاول تطويع العناد، والإذعان لرغبة ابنتها، فلقد صار لها بنتٌ جامعيّة، راضِية مَرْضِيّة! بعدها، بدأت البنت «نور» مهمّتها الصعبة «المباركة» بتعليم أمّها… بعد أشهرٍ من التّعب والضّنى، قالت الأمّ الطاعِنة:
ــ يا غاليتي، جرى الدّم بِعروقي، صِرْتُ «مُبصرة»، ضوءٌ ساطع أنارَ عتمة الطريق، وظلمة عقلي ونفسي، جزاكِ الله خيراً!
هموم كثيرة، جبال من الظلمة، بدأت تتهاوى من قلب الأمّ وروحها، كان صوتها في القراءة مسموعاً خارج جدران المنزل..الجيران خرجوا من بيوتهم، ليروا الجديد حولهم، صدمتْهم الدّهشة، عَرَفوا مصدر الصوت، رائحة الورد الجوريّ والياسمين، انتشر شذاها العبق، فرحوا لهذا الخبر السَّعيد، لأنّ شرايين الحياة، عادت لِواحدةٍ منهم:
ــ «واحدة منّا استفاقت من سُباتِها، يالفرحة الجدران الصمّ»! قالتها إحدى الجارات القريبات.
قالت «نور»، وهي تقفز من الفرح والانتشاء:
ــ أمّي هنيئاً لك فرحتك، هنيئاً لي فرح قلبي، من مدّة طويلة، وأنا أتمنّى أنْ يتحقق هذا الحلم الورديّ، الذي كان بعيداً، لكنْ لا مستحيل بالحياة»!! قالت الأمّ بلغة فيها نبض فرح جوّاني:
ــ العَمَى قتلني يا بنتي، سرطان الأميّة العفنة، تمكّن منّي، لكنّني اليوم – بفضل الله، وتَعَبِك معي – كائنٌ آخر، إنسانة مُبْصِرة! أحد كبار السنّ، كان يسمع المحاورة، كان هو الآخر قرمة حطبٍ جافّة، قال للأمّ وابنتها، بنوعٍ من غيْرةٍ بيضاء: «عنْ قريبٍ، سأطلب من ابني الجامعي»جابر»، أنْ يعلّمني كيف أفكّ الحرف».. سار وقد خبّأ بصدره هذه الأمنية الغالية..إحدى الجارات طافت بالأمّ وابنتها، سمعت نتفاً من المحاورة بينهما، قالت بِسِرِّها: «وأنا عنْ قريبٍ، سأتعلّم القراءة والكتابة، العَمَى قتلني، سدَّ أمامي كلّ المنافذ، أنت أيتها الطاعنة قدوتُنا، خارطةُ طريقنا».. وتابعت سيرها.. الحوارات أضاعت جزءاً من وقت الأمّ، فلقد قرأت بكتاب القراءة: «الوقت كالسّيف..»، ولمعَ الوقت فجأة أمام عينيها برّاقاً كَنَصْلٍ؛ ارتعدت قليلاً؛ انكفأت، تجلّدت، قلّبت لمعان «السّيف»، بدأت تقرأ السّطور .. بعد تلاوة عددٍ من الصفحات، غاصتِ الأمّ القارئة بتفكيرها، تعالت الأحلام، انتعشَ حماسها: «حلمتْ أنّها تقف أمام جاراتها، أمام تلميذاتٍ لها بمدرسةٍ ما، أمام سبّورة سوداء، تريد مَنْ (يلوّن) وجهها بالضياء، وفرح الحياة الأزرق»، «حلمتْ بمكتبة عامرة، مملوءة بالكتب منْ مختلف الطعوم والعناوين، وبأنّها تقرأ بشَغفٍ لا حدّ له»! كانت البنت الجامعية الواعية، تبني معمارَ فرحها شيئاً فشيئاً، ها هي أمّها الطاعنة قد أشرق عقلها بنعمة النّور، فالعتمة الطاغية، تنسحب فلولَها رويداً رويداً.. أخيراً، حققت البنت «ضالّتها» المنشودة، وأمنيتها المنتظرة! ذات يوم، اجتمع ببيت الأمّ المتعلمة عددٌ جمٌّ من نساء الحيّ وصباياه، دخلت البنت الجامعية صالون البيت، رأتِ النّسوة والصّبايا متحلقاتٍ حول أمّها، تقرأ عليهنّ بجريدة الصباح موضوعاً مهمّاً عن «ضرورة تكثيف الجهود العربيّة، لمحو الأميّة بوطننا العربي»، وأخباراً عمّا يجري بسورية وفلسطين والعراق ومصر والجزائر وليبيا، واليمن «الذي كان سعيداً»، من مؤامرات صهيو – أمريكية، ومظالم دولية، بصوتٍ جهوريّ واضح؛ وقتها لم تعرف البنت، لماذا انثالَ منْ عينيها العسليّتين دمعاتٌ عزيزات، وهي تسمع هذا الصّوت الدّافئ الآسِر منْ أمّها الغالية، التي ودّعتِ «عَمَى الأُمِيّة»، إلى غيرِ رجعة!!
وجيه حسن

المزيد...
آخر الأخبار