تتفرد لغة الشاعرة : هناء يزبك بعلاقاتها التي لا تتقوقع في معقولية الحقيقة ، وإنما تبني لها عالماً متشابكاً بمجازيّة العلاقة في ربط الدوال بمدلولاته ، فاللغة عند الشاعرة هناء يزبك لغة تنسج حروفها بإبرة الخيال ، وتشبك خيوطها بمجازية العلاقات التي تهندسها وفق رؤى وأخيلة تبعث على الدهشة والغرابة ، وهما قوام اللغة الشعرية التي تبحث لها عن مساحة مناسبة في ظلّ الركام الحداثوي الذي تنأى لغة الشاعرة هناء بنفسها عن الانزلاق في ضبابية الرمز ، أو التسطّح في شكلانية التوزيع للكلمات في أنساق لا دلالة لها ، أو بريق ، فهي تسعى إلى خلق لغتها الخاصة التي تطبعها بميسم أنوثتها الطاغية بعذوبتها والمستبدة في آن بمحاولتها السيطرة على الذائقة الجمالية لقارىء شعرها ، ومن هنا نستطيع فهم سيرورة مسيرتها الإبداعية التي بدأت تبصر النور على مستوى الدواوين الشعرية ، واختيار الشاعرة لعتبات مجموعتها الشعرية التي بدأت مع ديوانها البكر الموسوم بـ : ( امرأة من نار) بما يمكن أن يحمله هذا العنوان من دلالات إجناسية ، (فالعنوان إظهار خفي ورسم للمادة المكتوبة إنه توسيم ، وإظهار فالكتاب يخفي محتواه ولا يفصح عنه ، ثم يأتي العنوان ليظهر أسراره ويكشف العناصر الموسعة الخفية ، أو الظاهرة بشكل مختزل وموجز ) ومحاولة فرض سلطة الأنثى في تأكيد أنها العنصر الأهم والأقوى الذي تتشكل منه الطبيعة إلى جانب العناصر الثلاثة المتبقية ، وهي الماء والهواء والتراب ، فهي التي تزداد اشتعالا بالهواء ، كما أنها القوة التي تجفف الماء وهي التي تغير طبيعة التراب ، وبذلك تبدو سلطة العتبة النصية منذ العنوان ، وهي سلطة تفرضها طبيعة اللغة الشعرية التي تبدو غرائبية في أساليبها التعبيرية التي لا تحتكم إلى منطق أو واقع ، وإنما هي خلق المتوهم من الواقعي والظني من اليقين ، وبهذا التجاوز تبدو لغة الشاعرة هناء يزبك لغة تنتج لغتها البكر من خلال مزاوجة الخيال ، وانتقاء الرموز التي لا تستهلك ألفاظها من خلال علاقات إسناد تلجأ فيها إلى اعتماد التركيب الإضافي ، وهو من أكثر التراكيب قدرة على استحضار المصاحبات اللغوية المتجاوزة لعرفية المصاحبة التي تحقق عنصر المفاجأة وتبعث على الدهشة والانبهار ، كما يبدو الرمز مخاتلا دلالاته المعروفة ، لينفتح في شعر هناء على عوالم خاصة و فضاءات أبعد من حدود أفق اللغة بحدودها المعجمية بشفافية تعتمدها في ربط الرمز التاريخي بدلالاته المعاصرة ، وتبدو الشاعرة وفق هذا المسار اللغوي قد حددت سمت مسارها الإبداعي منذ استهلال عتبة الديوان الثاني الذي جاء مرتبطا بعلاقة السببية في محاولة ربط سياقي دال وموحٍ مع ديوانها الأول ، فديوانها الجديد الموسوم بـ : (على ضفاف الشغف ) يبدو مسارا متّسقاً من حيث علاقته القائمة على السببية مع الديوان الأول ، فالمرأة التي تتشكل من نار بحاجة إلى استراحة تحاول فيها أن تعيد تشكيل عناصر أنوثتها من جديد ، وهي تتصارع مع جمر الكلمات وتحترق في مواقد جمر الحروف ، لتكون الضفاف الواحة التي تجد فيها متنفسا لإعادة هيكلها من جديد وهي استعادة الحياة التي تسعى إليها بشغف الأنثى ، لأنها تحب الحياة مثلما تهب الحياة ، فتنأى برمزية الضفاف بما تحيل عليه من مساحة جغرافية ترتبط بمكان محدد ، لتتخذ مكانها المتخيل الذي لا يتوقعه العرف السائد في علاقات اللغة المتواضع عليها ، فهي تخرق قانون المألوف والسائد ، لتحقق لغتها الخاصة بوعي وإدراك لأهمية استثمار طاقات اللغة التعبيرية التي تضج بأنوثتها ، فتبعث غلال خصوبتها ثماراً من الأساليب التي تتحوَّل فيها الكلمات إلى بيادر من معان وانزياحات ترتقي بالنص من عالمه اللغوي إلى انفتاحه على إشراقات رؤى المتخيل الشعري الذي يتغذى من معين الأنوثة التي تفرض سلطة لغتها باقتدار من خلال أسلوب مغاير يخالف الموروث ، ليخلق معجمه الشعري معجم الأنوثة التي تسعى الشاعرة هناء يزبك من خلاله تأكيد اختلافها مع اللغة ، لتخصب لغة هنائها ، وهي تبذر في تربة قصيدتها ماء الحياة الذي يتخمر بشفافية الهمس ، وقوة التعبير إلى جانب انفتاح على سحر اللغة ، وفضّ علاقاتها المنغلقة على قوالب المتوارث والمعهود ، وتتبدى كل تلك الانتقائية للمعجمية اللفظية لدى الشاعرة هناء في قصيدتها : ( لحن فراتي ) من ديوانها : (على ضفاف الشغف ) كأنموذج تقول فيها :
دعي جديلتّكِ تسابقُ أجنحةَ الرّيح
ظلّ القمرِ فوق وجهِ الموجِ
وامتدادِ الأفقِ الأزرق
نلحظ توق الشاعرة إلى استجلاب المصاحبات اللغوية المتجدّدة من مثل تراكيب :
( أجنحة الريح ) ( وجه الموج ) ( رصيف الروح) ( عيون القرنفل )
وفي هذا الشغف بالتوغل في الجديد والإيغال في سراديب الحداثة تعتمد تقنيات في أسلوبها التعبيري الذي يتراوح بين تجسيد المعنوي أحيانا ، و تبادل الوظائف الحسية ، فيما يعرف اصطلاحا بـ : ( تراسل الحواس ) حيناً آخر تتابع :
جراح رصيفِ الرّوح تُمسَحُ
تتركُ عطرَها العنبريَّ على قميصي
فيخضرّ القلبُ
فها هو النخيل يتشخصنُ في هذا السياق ، والحزن يتجسّد بشكل شَعر يُمشَّط فيما تضفي على النخيل الحسّ ، والشعور كالبشر
كما تلجأ الشاعرة في أسلوبها التعبيري إلى علاقات السببية والضرورة التي تقيمها هي وفق فلسفتها الخاصة وقانونها اللغوي ، لا وفق منطق ما تقتضيه العرفية اللغوية السائدة في علاقاتها الإسنادية ، فتأتي بالتركيب المنفي الذي يفيد إثبات ما بعده بحكم الضرورة : (لا بدَّ ) ليشكّل تكراره لازمة تفيد تأكيد لغتها في هذا السياق وفق قانون سلطتها التي سعت إلى تأكيدها منذ العنوان العام للديوان ( فالتكرار يحقق في النص الشعري الواحد دلالات مختلفة تتمثل في مقدرته على جمع ما تفرّق من المقاطع الشعرية ، فتكرار المقطع يشكل نقطة ارتكاز نغمي يوقف جريان الإيقاع بهدف التركيز على نغمة معينة موظفة أساساً لتأدية الدلالة التي تفرضها التجربة الشعرية ، والمهم في هذا التكرار أن يؤدي وظيفة فنية ما تنعكس على القصيدة ودلالاتها كافة ) فاعتمدت تكرار : (لا بدّ) التي أوردتها استهلاليّةً في أسيقة تفيد ما ذهبنا إليه وفق هذه الثنائيات :
حلم = المساء الشهي
حلم يغفو = يسيل العطر
اللقاء = يعرف
تتابع قولها : لا بدَّ من حلمٍ ليكونَ المساءُ شهيّا
لا بدَّ من حلمٍ يغفو في عيونِ القرنفلِ
ويأخذني إلى مداه المُبلّل بالنّدى
فيسيلُ العطرُ لهفةً لرعشةِ المواعيدِ وما بينَ حلمٍ وآخرَ
لا بدَّ أن نلتقي
ويمشي ظلّي أغنيةً على ضفَّة نهرٍ
يعرفُ من أيّ عطرٍ يفيض
نلحظ هنا أن الشاعرة قد حاولت تكرار قولها : (لابدّ ) ثلاث مرات ، فشكّلت بهذا التكرار مقولة أساسية جعلت منها بؤرة توتر تشعُّ بمعان إضافية تتابعت وفق بنائية تكثيفية متدرجة في بنائها المعماري وفق هرمية مقلوبة بدأت بالمعنى المفرد ، لتنتقل في تصاعدها الدلالي إلى معان ودلالات أكثر تشعباً وتوسعاً في دلالاتها ، وهو ما يبينه الحقل الدلالي الذي اشتمل على حقول دلالية متباينة ، فنجد لفظ عطر من حقل الرائحة ، فيما لفظة يمشي من حقل الحركة وأغنية من حقل الصوت ، ونهر من حقل الطبيعة ، وبذلك يتوضح لنا شغف الشاعرة هناء يزبك برغبتها بأن تلج في سراديب الإحساس ، وأن تتوغل في بكارة اللغة ، لتفضّ عذرية الكلمات وهي تمنحها جمالية التشكيل و تلبسها ثوب زفافها الذي جاء موشى بشفافية الحس ومطرّزاً بشغف الأنوثة في الحياة التي تريد لها الانعتاق من حدود جغرافية مواضعها التي تمنحها إياها الحروف والكلمات إلى فضاء التشكيل الجمالي ، وما يشع فيه من رؤى وأخيلة تفيض بها قريحة الشاعرة بما تكتنزه أنوثتها من رغبة في استمطار الحبّ ، وشغف بالجمال والحياة.
د. وليد العرفي
المزيد...