تعقيباً على محاضرة الدكتور (قصي أتاسي) بعنوان ( أزمة الشعر المعاصر ) منذ أن وضع ( الأخفش) في العصر العباسي الأول تعويذته الشعرية التي تقول : ( الشعر قول موزون مقفى يدل على معنى وعلقها على بوابة الشعر ثم أقفلها ورمى بالمفتاح في نهر بغداد ولم يعثر له على أثرٍ حتى اليوم ، أقول منذ هذا التاريخ والشعراء يلتزمون بهذه التعويذة دون ان يستطيعوا التمرد عليها أو الخلاص منها .
وحسب هذه التعويذة فإن الشعر الحقيقي هو الذي يسلطن سامعه ، أي يجعله يتخيل شخصه سلطاناً يمتلك كافة الصلاحيات فيحقق في الخيال مالايستطيع تحقيقه في واقعه المتردي ، ويجعله منتشيا بدون خمرة ، ويلهب كفيه بالتصفيق الذي يساير تصفيق الآخرين ، حيث يفهم معانيه بسهولة لاتحتاج إلى إعمال الفكر أو كد الذهن ، وهو محمٍ من اختراق أية حربة إبداعية جديدة وقد اكتسب الاستمرارية والخلود عبر متوالية هندسية تقول التجديد لايكون إلا في المضمون فقط .
ثم جاء في الأربعينيات الفرسان العراقيون الثلاثة (نازك الملائكة ، بدر شاكر السياب ، عبد الوهاب البياتي) فعلقوا على بوابة الشعر تعويذة جديدة تقول الشعر قول جميل موزون يوحي بالمعنى فاضافوا كلمة ( جميل ) وحذفوا كلمة ( مقفى ) وقاموا برفع بوابة الجمود التي تعيق جريان نهر الشعر إلا ضمن شروط ( الأخفش ) فغير قسم منه مجراه وحفز القارىء على التخيل الخصب والتفكير المجدي والتأمل الناقد .
وابتعدت القصيدة على يدهم عن شعر المناسبات المفتعل والتوثيق الجاف ، والوعظ الممجوج ، وصارت تتوجه إلى داخل فكر الإنسان بعد أن كان الشعر الموزون المقفى يمنع ذلك ، ويكتفي بالتعبير الانفعالي عما يحيط به ، كذلك وظفت الرموز الصعبة وتركت للقارىء ربطها بالمدلولات المقصودة ، كما أنها زودته بالإحالات إلى بعض الأساطير لإسقاطها على الفكر المعاصر .
وفي العصر الحديث أعشاش الشعر الماضي لم تعد تنفع عصافير الشعر الجديد للإقامة فيها لأنه لايتوافر فيها أي معطى من معطيات الحضارة العالمية ، لذلك فإن الشعراء السوريين ( أدونيس ) و(فايز خضور ) و(نزيه أبو عفش ) أعلنوا عصراً جديداً للقصيدة العربية تسلم القارىء مفاتيح المستقبل بدلاً من النوم على وسادة الشعر الماضي المحشوة بالأحلام الوردية ، وتملأ قلبه وروحه ووجدانه بالألق والتجدد ، وتخاطب عقله الباطن ، وتعفيه من العبارات المجلجلة التي تستجدي الإعجاب ، وتمنع عنه النبرة الخطابية التي تملأ سمعه فقط ، وتترك وجدانه فارغاً .
وطالب ( أدونيس ) خاصة بتطوير اللغة بمعنى الاستغناء عن اللغة الخشبية التي يستعملها المتعيشون من الفتات التي تتطاير من موائد الشعر القديم الموزون المقفى ، الذي يدل على معنى والاستغناء عن كل ذلك بلغة حية جديدة تومض بالمعنى ولاتظهره ، توحي بالمدلول ولاتصرح به ، تمد يدها للقارىء داعية إياه الى حلبة الرقص ، والتفكير فيما يسمعه أو يقرأه من شعر يبدو له غامضاً بعد أن اعتاد على سماع شعر واضح المعنى لايحتاج للتفكير ، فقد آن له أن يفطم عن الرضاعة السهلة ، ليدخل طور التذوق والانطلاق .
نزيه شاهين ضاحي
المزيد...