يحسب القارئ لمقامات الدكتور غازي مختار طليمات الصادرة حديثا بعنوان«مقامات ناصحة مازحة لا جارحة » أن الدكتور طليمات هو آخر الفرسان الشعراء الذين يكتبون هذا الجنس الأدبي ,«فن المقامات »خاصة وأن الشباب اليوم يميلون للعزوف عن المطولات من الفنون الكتابية ,مع ميل معظم الفنون الكتابية وغيرها إلى الإيجاز, ربما تماهياً مع عصر السرعة الذي يجتاحنا كأننا كائنات من جماد, ولم أعلم بعد أن هناك شاعراً أو ناثراً واحداً يكتب فن المقامة في هذا الزمن إلا الدكتور طليمات الذي نحن بصدد كتابه «مقامات ناصحة» ,يقع الكتاب بـ 160 صفحة من القطع الكبير يتضمن أربعين مقامة ساخرة اجتماعية وثقافية قدم للكتاب الدكتور وليد سراقبي من جامعة حماة أوجز في المقدمة لتعريف المقامة وشرح الخصائص الفنية لمقامات الدكتور طليمات فعرف المقامة بأنها قصة قصيرة يبث فيها الكاتب ما يشاء من أفكار , تتسم بروح الدعابة .
اعتبر عدد كبير من الباحثين أن بديع الزمان الهمذاني مبتدع هذا الفن وصاحب الريادة في ابتكاره وعلى يديه استوت المقامة جنساً أدبيا ًوفناً من فنون النثر العربي في القرن الهجري الرابع,وغدت لها معالمها ومذاقها , ويشير مقدم الكتاب الدكتور وليد إلى أن من أشهر مرتادي هذا الفن في العصر الحديث : فارس الشدياق وناصيف اليازجي في بلاد الشام .
نقد ساخر
من يقرأ هذا الكتاب الجميل الشائق يلاحظ أن السخرية فيه من أمراض اجتماعية غير مجانية هدفها العلاج والنصح ، فالكاتب في هذه المقامات يتقمص شخصيتي الراوية والبطل ,أما الراوية فهو حبيب بن لبيب وأما البطل فهو سيار بن عيار .وموضوعات المقامات مستقاة من تجارب واقعية عاشها الكاتب ,يستطيع القارىء أن يقف على البناء الهيكلي لكل مقامة, والأسس الفنية التي اتكأت عليها وهي تقوم على حكاية يسردها راو ٍعلى لسان البطل , تعالج قضايا اجتماعية و ثقافية و اقتصادية وسياسية .ثم تنتهي المقامة ببضعة أبيات من الشعر تمثل إيجازاً للموضوع المعالج ,ويغلب على أسلوب المقامات السرد القصصي الموجز ,والعرض السريع للأحداث التي تتنامى لتصل لذروة الحكمة ببضعة أبيات ناصحة في النهاية ,ولعل الرشاقة اللغوية من خلال الجمل القصيرة الفعلية المتتابعة في السرد ,والقدرة على نقل الحدث بلغة تصويرية ساخرة ,تشي بمعجم لغوي ثرّ ,وإيقاع قائم على قصر الجمل والسجع ولزوم ما لا يلزم في أواخر الحروف من فواصل ,حتى أنه يلتزم في بعض الأحيان بثلاثة أحرف وهذا ما يذكّر بلزوميات المعري، أما لغة المقامات فهي من السهل الممتنع المحبب ,تثري المعجم اللغوي للقارئ ,و تعيد إلى فن المقامة ألقه,وتتضمن توظيفاً ناجحاً لمعجم لغوي دفاق ,حيث لا تكلف في التراكيب فما إن تبدأ بقراءة أول سطر حتى تجذبك إلى الخاتمة وهذا دليل على تعاضد الموهبة والمقدرة اللغوية ,والبديهة الحاضرة,والخيال المجنح ,والتصوير عبر ألفاظ اللغة وتراكيبها لذلك نرى قلة من يتجرأ على الكتابة في هذا الفن الأدبي النبيل .
المقامة التنجيمية
من المقامات التي تتحدث عن دجل المنجمين وفضح تدليسهم ,بأسلوب شائق ماتع ,ص 22 :قال حبيب بن لبيب :أمعن سيار بن عيار في الغيبة ,حتى راودني اليأس والخيبة .وحينما طال غيابه واستحال إيابه.أشار علي صديق ,باللجوء إلى المنجِّمين .قلت له :كذب المنجمون ولو صدقوا ,وأخطأ المرجمون فيما نطقوا,مهما تفيهقوا أو تشدَّقوا.
المقامة «الأركيلية»
مقامة أخرى تسخر من المدخنين «للأركيلة» بعنوان المقامة الأركيلية, نقتطف من الأبيات الواردة في نهاية المقامة حيث ينهي الدكتور طليمات كل مقاماته كما ذكرنا بقصيدة عمودية مقفاة تشرح وتسخر وتلخص الموضوع المطروح فيقول : حسناء لا يخدعك ما نثروا على /«أركيلة » من لؤلؤ وعقيق /أوما دعوا«تنباكها» «نفساً »,وقد / بعثوا الخناق به إلى المخنوق/تزهو بتحليق الدخان,وروحها /منها تروح بذلك التحليق /حسناء لو أهديتني «أركيلة»:لركلتها كِسَراً بكل طريق.
قصيدة النثر لا أنثى ولا ذكر
في المقامة الخنثاوية يحدثنا الكاتب عن سرعة أدباء لبنان في التغير وعن مؤتمر قصيدة النثر الذي حضره الكاتب في لبنان على ما يبدو من خلال المقامة الخنثاوية ص 12قال سيار: سؤالك يا حبيب ,يثبت لي أنك أديب أريب, ينظر إلى قصيدة النثر بعين ناقد لبيب ,كما ينظر إلى الخنثى الفقيه والطبيب .وإليك الجواب لعله يكشف عنك سحاب الإكتئاب ,وضباب الإرتياب ,ثم راح يغرد ,وأنا أردد: قصيدة النثر لا أنثى ولا ذكر /قصيدة النثر خنثى حسبما ذكروا قصيدة النثر خنثى أشكلت ولذا / أِقيم للبت في التصنيف مؤتمر /قيثارة قطعت أوتارها فغدت /صماء بكماء ,لا يزقو لها وتر /عمياء عرجاء ما سارت إلى وطر/إلا تباعد عنها ذلك الوطر .
أخيرا
إن كل مقامة أجمل من سابقتها ولا يمكنني تلخيصها هنا جميعها ,ولكنه كتاب جدير بالقراءة وجدير بقلوبكم وذائقتكم ويستحق أن يكون من أهم الكتب في المكتبة لا سيما إذا كنت عزيزي القارىء تريد لأولادك أن يتعلموا سحر البيان .
الجدير بالذكر أن الدكتور غازي مختار طليمات من مواليد حمص 1935يحمل شهادة الدكتوراه في علوم اللغة العربية ,درّس في الجامعات السورية له العشرات من الكتب في مختلف الفنون الأدبية من شعر ومسرح ونقد وقد برع في فن المقامات وظل محافظاً على إنتاجه منها نظراً لما يتمتع به من حس الفكاهة واصطياد الفكرة المدهشة.
فقد أراد طليمات أن يرتاد هذا الفن ليكون مراحاً عن جفاف النحو وقواعده وهو المعروف بسيرة علمية عريقة فكتب في الدراسات النحوية ونشر كتباً تطبيقية تعليمية تتأبَّى على المقصد التجاري وله كتب في الشعر والدراسات العروضية، ومسرحيات عدة ولديه مشروع ضخم لتأريخ الأدب العربي من شعر ونثر صدر منه حتى الآن ثمانية أجزاء وهو بذلك باحث جاد وقارئ نهم وأكاديمي لا يقرُّ إلا بأنه راغب في الازدياد من العلم فشكرا له على هذا الكتاب الشائق الماتع, وأطال الله بعمره حتى يمدنا أكثر وأكثر بكل هذا البذخ والجمال .
ميمونة العلي