عندما سمعت رشا بخبر استشهاد عبد العزيز ابن جيرانها ، أحست أن الدماء تجمدت في عروقها وأن أطرافها شلت عن الحركة ،شعرت بصقيع بارد يسري في جسدها ،وتمنت أن تتوقف حياتها عند هذا الحد ،وضعت كتبها ودفاترها الجامعية جانبا وجلست على الكرسي لتجمع وجهها بين كفيها قائلة : لا، لا أصدق أنه استشهد !! لقد اتصل بي البارحة وكان سعيداً بالانتصارات التي حققها مع رفاقه من أبطال الجيش العربي السوري وأنه سيأتي يوم الجمعة !
كيف رحلتَ يا رفيق الروح؟ كيف أقنع نفسي أن للغياب وصالا ؟ونبض قلبي لم يتوقف لحظة عن ذكر كلماتك وضحكاتك وسط قسوة هذه الحياة ؟
خرجت رشا من غرفتها تلملم أفكارها المشتتة وذكرياتها، تمنت لو تستطيع البكاء ولكنها لم تستطع فقد تصلبت الدموع في مجاري روحها ،رأت أمها تخرج من غرفتها وهي تلف المنديل الأبيض فوق ثيابها السوداء وعيناها الحمراوان قد تعبتا من البكاء بصمت : هيا يا رشا يجب أن نكون إلى جانب أم عبد العزيز الآن إنها في حالة يرثى لها…
وأنا؟!! وأنا من يواسيني ويعزيني ؟ من يقف إلى جانبي؟! صرخت الشابة بينها وبين نفسها ، نظرت رشا إلى أمها بعينيها المقهورتين وسألتها : كيف استشهد عبد العزيز بعد كل هذه الانتصارات الساحقة التي كبدت الإرهابيين خسائر فادحة ؟
مسحت الأم دمعتها وقالت لابنتها : لقد ارتقى عبد العزيز مع ثلة من رفاقه ليكونوا شهداء والبعض الآخر نقل إلى العناية الفائقة لخطورة إصاباتهم.
خرجت رشا برفقة أمها من المنزل، ولأول مرة تشعر بطول الطريق إلى بيت أبي عبد العزيز وهي ترى جموع الناس وجمهرة كبيرة حول الأم الثكلى التي كانت تندب بيديها بدون أي صوت على جثمان ولدها الذي زين بعلم الجمهورية العربية السورية .
كان أبو عبد العزيز يقول للناس والمقربين وهو يمشي بينهم وكأنه يواسيهم
: الحمد لله الذي أكرمني باستشهاده ورؤيته وتوديعه ، أنا فخور بولدي وهذا وسام أضعه على صدري.
أغمضت الشابة عينيها وهي تسمع صوت أم عبد العزيز تتمتم باكية بكلمات غير مفهومة وشريط الذكريات يمر من أمامها وهي ترافق عبد العزيز مع أخته إلى المدرسة عندما كانوا صغاراً… ثم إلى الجامعة وهما يأكلان الفول والذرة بسعادة وعندما تخرّج من الجامعة وكيف التحق بالخدمة العسكرية يلبي نداء الوطن ، كان يتواصل معها كل يوم – كما يتواصل مع أهله – وكان في مكالماته يعبّر لها عن حنينه وشوقه لرؤيتها و أنه سيتابع حياته بجانبها! كان القدر أقوى منهما فقد استشهد قبل أن ينهي خدمته العسكرية وزف عريساً إلى الحبيبة سورية.
همست أم عبدالعزيز في أذن رشا المكلومة بحبيبها قائلة : لقد أحبك كثيراً يا رشا وكنا ننوي في إجازته أن نزوركم ونطلب يدك من أهلك ولكن ، غصت الأم في البكاء .
شعرت رشا بالغربة وهي تحدق في صورة حبيبها المعلقة على الجدار يبتسم ابتسامة مليئة بالثقة والشجاعة وغاصت في أحلامها مرة ثانية معه لتقول له في نفسها : لقد رسمت حدودي قبل أن ترسم حدود وطني أيها الشهيد
استيقظت من أفكارها وهي تسمع صوت سيارة الإسعاف تدوي في الحي وضجة كبيرة في الخارج مع صوت يقول: لقد استشهد سعيد ابن جارنا أبي عبد الله !
وتعالت الأصوات وصرخت أم عبد العزيز: لاحول ولا قوة الا بالله هيا ، هيا نخرج لمواساة جارتنا أم عبد الله..
ترفَعت أم عبد العزيز عن مصابها وخرجت مع النساء ومن بينهن رشا ليلاقين موكب الشهيد سعيد .
وعندما أخرجوا جثمان الشهيد سعيد من السيارة زغردت النساء زغاريد تقشعر لها الأبدان، والعيون تبكي بدموع مختلطة بين الحزن على فراق الأحبة وبين الفخر والاعتزاز بالشهداء وسط تراشق الأرز والورد والياسمين على الموكب .
نظرت أم عبد العزيز إلى زوجها ، لتراه على بعد عدة أمتار يمسح دموعه فخراً وحزناً.
عبير منون