مسْرحيَّةٌ في الطريق

كنْتُ في طريقي إلى مقهى الروضةِ مع الأصدقاءِ، وكان على رأسِهِم صديقُنا أبو حسبو، الذي كان يتحِفُنَا طِوالَ الطَّريقِ بِطَرائفِهِ اللذيذَةِ، وهذا عهدي بِهِ مُذْ تعرَّفْتُ إليهِ، فقدْ خُلِقَ للضحكِ وللنوادرِ والمقالبِ وكأنَّهُ وهبَ الهمومَ لغيرِهِ، بَيْنَمَا احتفَظَ لنَفْسِهِ بسعادَةٍ غامرَةٍ لا يُطْلِعُ على سرِّهَا أحداً.
عنْدمَا وصلْنَا إلى مفْتَرَقِ طرُقٍ رأيْنَا رَجُلَاً ضريرَاً يتسَكَّعُ بجانِبِ الشَّارَةِ الضَّوئِيَّةِ، على بعْدِ خُطُواتٍ من جدَارِ مقبَرَةٍ قديمةٍ يصيخُ السَّمْعَ، ويُعَرْبِدُ بكلماتٍ مُبْهَمَةٍ، وقدْ استنَدَ بظَهْرِهِ إلى جدارِ المقبرَةِ، ومدَّ يدَهُ لعَلَّهُ يَسْتَدِرُّ عطْفَ العابرين.
فاجأنَا أبو حسبو عنْدَما قالَ:
ألا تريدون قليلاً منَ الفَرْفَشَةِ الطَّازَجَةِ ، طبخُ هذه اللحظَةِ؟
قلْنَا : بلى ، هاتِ أتْحِفْنَا .
وعلى الفَوْرِ خلعَ أبو حسبو فرْدَةَ حذائِهِ ، وانتزعَ جورَبَهُ، ودسَّ يدَهُ في جيْبِهِ ، وأخرجَ ما بِهَا منْ قِطَعٍ نقْدِيَّةٍ مَعْدَنِيَّةٍ، وواراها داخل جوربه ، ثم أمرنا أن نحذو حذوه في إفراغ جيوبنا منَ القطعِ المعدنيةِ وأن نرميها في جوربه، وهو في كلِّ ذلك يشيرُ إلينا بيدَيْهِ وعينَيْهِ ورأسِهِ دونَ أنْ يبوحَ ولو بكلمَةٍ واحدةٍ، وقد حذَّرَنَا مِنْ مغبَّةِ الكلامِ.
استقامَ أبو حسبو في وقفَتِهِ، ورفع رأسَهُ للأعلى، وأغمضَ عينيْهِ، وشوَّحَ بيديْهِ، وتوجه مباشرةً نحو الرجلِ الضريرِ وصدمَهُ بعنْفٍ ، ثمَّ تكوَّمَ فوقَهُ بكُلِّ ثِقلِهِ وهوَ يوهِمُهُ بأنَّهُ تعَثَّرَ بِهِ .
صاحَ الرجلُ الضريرُ بأعلى صوتِهِ :
(العمى بقلبك )، ألا ترانِي ؟ أمْ أنَّكَ أعمى القلبِ ؟
فردَّ عليْهِ أبو حسْبُو بِنَبْرَةٍ ساخِطَةٍ وهو ينْهَرُهُ قائلاً :
العمى لقلبِكَ وعيونِكَ، أنا أعمى لا أرى، فما (ضريبَتُكَ) أنْتَ ؟
قالَ الضريرُ وقدْ لانَتْ لهْجَتُهُ، وهدأ غضبُهُ :
أنا أعمى مثلُكَ، ولكنني جالسٌ في مكاني، وقدْ كفَيْتُ النَّاسَ شرَّ الاصطدامِ بي، أمَّا أنْتَ فتسيرُ بالشَّارِعِ وتصطدمُ بالنَّاسِ ولسانُكَ طولُهُ شبْرٌ.
اعتذَرَ أبو حسبو من الضريرِ بلباقةٍ، وطيَّبَ خاطرَهُ بعدَّةِ كلماتٍ، ثم قالَ لهُ متسائلاً: كم ميزانِيَّتُكَ اليوم ؟
قالَ الرجلُ الضريرُ بصَوتٍ يائسٍ: (شحاري) ، واللهِ ما استفتحْتُ غيرَ خبطَتِكَ الملعونَةِ، ومسحَ بِطَرَفِ كُمِّهِ حولَ شفتيْهِ وأرْدَفَ قائلاً: منذ ساعات الصباح الأولى وأنا أجلسُ هنا أمدُّ يدي للناسِ، ولا سمِعْتُ التي ترنُّ.
قالَ أبو حسبو وهو يريدُ إغاظَتَهُ: أمَّا أنا فالحمدُ للهِ فقَدْ رُزِقْتُ بمالٍ كثيرٍ، أعلمُ أنَّهُ كثيرٌ لكنَّنِي لا أعْلمُ مِقْدارَهُ. وصمَتَ أبو حسبو ليتيَقَّنَ أنَّ الرجلَ قدْ وقعَ في المصيدَةِ، ثُمَّ قالَ لهُ مفاجِئاً: هل بإمكانِكَ أنْ تَعُدُّهُ لي؟
سُرَّ الرجلُ الضريرُ لهذا المطْلَبِ، فلعقَ شفتيْهَ، وفرَكَ يديْهِ، وأضمَرَ في نفسِهِ سِرَّاً وقالَ بعْدَ ترَدُّدٍ:
أعُدُّهُ لكَ، شَريطَةَ أنْ لا تكلمني، ولا تقاطعني حتى أنتهي مِنَ العَدِّ.
اسْنَدَ أبو حسبو ظهرَهُ لجدارِ المقبرةِ، واستوى إلى جانبِ الرجلِ الضريرِ، واستنَدَ عليْهِ بكوعِهِ، ووضعَ ركْبَتَهُ فوقَ ركبَتِهِ، وسلَّمَهُ الجوربَ بِحَذَرٍ وكأنَّهُ استسلمَ للأمرِ الواقعِ وهوَ يقولُ: لكَ ما تريدُ.
قبضَ الضريرَ الجورَبَ بكلتا يديْهِ، وجذبَهُ منْ يدِ أبي حسبو بقوَّةٍ، ثُمَّ جسَّهُ بامعانٍ، ثُمَّ تملْمَلَ في مكمَنِهِ حتَّى تَخَلَّصَ من يدِ وركبَةِ أبي حسبو، ومن جديدٍ يَجُسُ الكيسَ مرَّةً أخرى قبلَ أنْ يدسُّهُ في جيْبِهِ، ومِنْ ثم لمْلَمَ جسَدَهُ بِحَذَرٍ، وزَحَفَ على أرْبَعٍ مَخَافَةَ أنْ يُحْدِثُ جَلَبَةً، وابتعَدَ لعدَّةِ أمتارٍ، ثمَّ اعتلى سُورَ المقبرَةِ بِخِفَّةٍ ورشاقَةٍ وتجاوزَهُ ليتوارى بينَ القبورِ.
ضَحِكَ أبو حسبو في سِرِّهِ وقَدْ سَرَّهُ أنْ يقَعَ ما توقَّعَهُ وقالَ يحدِّثُ نفْسَهُ : كُنْتُ أتوقَّعُ أنَّهُ دونِيٌّ وحقيرٌ ، ولكن لمْ أتوقَّعْ أن ينْهَبَ المالَ ويولِّي الأدْبارَ . ثُمَّ عاد إلى مسرحِيَّتِهِ فَأكْمَلَ الحوار بصوتٍ مُرْتَفِعٍ قائلاً :
هيه، ماذا حصلَ معَكَ؟ ألمْ تْنَتِهِ مِنَ العَدِّ ؟
ولمَّا لمْ يسمعْ رداً أعادَ السُّؤالَ عدَّةَ مراتٍ، ولكنْ لا مجيب.
تَظَاهَرَ أبو حسبو بالدهْشَةِ والاسْتِغرابِ، ثُمَّ بالامتِعاضِ.
وكرَّرَ سُؤالَهُ عدَّةَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يجِدْ جواباً تَظَاهَرَ بالاستِياءِ، عنْدَها هبَّ واقِفَاً وتقدَّمَ مِنْ سُورِ المقبرةِ ووقَفَ فوْقَ رأسِ الضريرِ وقالَ بصوتٍ مُرْتَفِعٍ ليصِلَ إلى مسامِعِنَا ومسْمَعِ الرجلِ الضريرِ:
يا رب، هذا حجرُ في يدي، فإنْ كنْتَ تعْلمُ أنَّني أظلمُهُ فلا تدعني أصيبُهُ، وإنْ كنْتَ تعْلَمُ أنَّني لا أظلمُهُ فلا تدعْ حجري يخطِئُهُ، ثمَّ أفلَتَ الحجرَ مِنْ يدِهِ فوقَ الرجلِ الضريرِ وهو يكْتـمُ في صدْرِهِ ضِحْكَةً كادَتْ تفْضَحُهُ.
كتمَ الضريرُ غيظَهُ وألمَهُ وابتعدَ عدَّةَ خطواتٍ يتوهَّمُ أنَّها تَقيهِ شرَّ أبي حسبو.
زحَفَ أبو حسبو وراءَهُ كظِلِّهِ ووقَفَ فوقَ رأسِهِ وقالَ:
يا رب، هذا حجرٌ أكبرُ، فإنْ كنْتُ أظلمُهُ فلا تدعني أصيبُهُ، وإنْ كانَ لصاً حقيراً فليأتِ حجري بينَ كتفيْهِ.
ثمَّ أفلتَ أبو حسبو الحجرَ بينَ كتفيْ الرجلِ .
ومِنْ جديد يكتمُ الضريرُ ألمَهُ، وقدْ أوجعَتْهُ الضربَةُ هذه المرةَ .
ومعَ ذلك لمْ يستسلِمْ، فقدْ لملَمَ أشلاءَهُ وآلامَهُ، ونأى بنَفْسِهِ بعيداً، مُتَلَمِّساً طريقَهُ بينَ القبور إلى الطرفِ المقابلِ مِنْ سورِ المقبرةِ وكمنَ هناك.
كُنَّا نترصَدُ حركاتِ الرجلِ التي تبْعَثُ على الضحكِ، ونحنُ نكْتُمُ أنفَاسَنَا مخافَةَ أنْ نُفْسِدَ حلاوةَ اللعبةِ، ونخْسَرَ نهايَتَهَا التي ننتظرُهَا بفارِغِ الصبرِ ونحنُ نتبعُهُ إلى ملاذِهِ الجديدِ.
ومنْ جديدٍ يقفُ أبو حسبو فوقَ رأسِ الرجلِ وهو يقولُ: يا رب، هذا حجرٌ كبيرٌ، فإنْ كنْتُ أظلمُهُ فلا تيسرْ لي إصابَتَهُ، وإنْ كنْتَ تعلمُ أنَّهُ ْ تعوَّدَ النَّصْبَ والاحتيالَ فاجعلْ حجري هذا يأتي في رأسِهِ.
خرجَ الرجلُ الضريرُ مِنْ مخبئِهِ ، ورفعَ يديْهِ وهو يلوِّحُ بالنقودِ ويصرخُ بأعلى صوتِهِ مستغيثَاً:
توقفْ وإلاَّ قتلتَنِي، فواللهِ ما هذا بضربِ عميانٍ، بل ضرْبِ مبْصرين، خذ مالَكَ وانصرِفْ عنِّي قبلَ أنْ تقتلِني.
عندها لم نتمالكْ زمامَ نفوسِنَا فانفجرْنَا ضاحِكِين .
جمال قاسم السلومي

 

المزيد...
آخر الأخبار
في ختام ورشة “واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة”.. الجلالي: الحكومة تسعى لتنظيم هذه... سورية: النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الج... فرز الخريجين الأوائل من المعاهد التقانية إلى عدد من الجهات العامة أفكار وطروحات متعددة حول تعديل قانون الشركات في جلسة حوارية بغرفة تجارة حمص بسبب الأحوال الجوية… إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه الملاحة البحرية مديرية الآثار والمتاحف تنفي ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام حول اكتشاف أبجدية جديدة في تل أم المرا ب... رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من القطاعات القبض على مروج مخـدرات بحمص ومصادرة أكثر من 11 كغ من الحشيش و 10740 حبة مخـدرة "محامو الدولة "حماة المال العام يطالبون بالمساواة شراء  الألبسة والأحذية الشتوية عبء إضافي على المواطنين... 400ألف ليرة وأكثر  سعر الجاكيت وأسواق الب...