في زمن حكْم العقيد أديب الشيشكلي لسوريّة، في الثلث الأوّل من خمسينات القرن الماضي، اعتمدت بعض القوى السياسيّة المُناوئة له على الإضرابات الطلاّبيّة، لاسيّما في المرحلتين الإعدادية والثانويّة، وكانت إشارة الإضراب تُعلَن بأن يجتمع عدد من الطّلَّبَة ويبدؤون بإنشاد»موطني»، فإذا اندفع الطلاّب خارج المدرسة يهتفون، ويُنشدون، عمّ ذلك المدارس الابتدائيّة فيخرج الجميع متّجهين إلى أسواق المدينة وبأيديهم بعض العصيّ يضربون بها على أبواب المتاجر، وهم يصيحون :» سكِّرْ..سَكِّرْ» ، فيُسارع التجار لإغلاق متاجرهم خيفة من وقوع أضرار تصيبهم، وكانت السيارة البيك آب الحمراء العائدة ل( التحرّي)، هكذا كان اسمها، وكان يرأسها رجل مشهور بكشف الجرائم، اسمه « أبو شمسو»، هذه السيارة تثير الرعب في صفوفنا، وكم من طالب أخذتْه إلى مركزها في سوق النّاعورة، فيناله مايناله، مع حلاقة الشعر على الصفر.
ذات يوم، وكان موعد الفحص النّصفي للإعداديّة والثانويّة، صدرت الأوامر للطلاب أن يعطّلوا الامتحانات، ويشاركوا في ذلك مع غيرهم من الفعاليات التي رفضت حكْم الشيشكلي،كنّا في إعدادية خالد بن الوليد على طريق الشام، حيث مازال مقرّها، وكانت دارا عربيّة واسعة، وكانت أسماء المُمْتَحنين قد نُشرت على واجهة من زجاج، في القسم الشمالي من تلك الدّار- المدرسة،بدأ نشيد «موْطني»، وعلَتْ الهتافات، وتقدّم احد الطلاب من البلور الذي نُشرت عليه الأسماء، وبضربة من جُمْعه المغطّى بقفّاز جلدي انكسر البلّور، ومدّ يده فمزّق الأسماء، ولم يعدْ أحد يعرف قاعته، ولا رقم المقعد، وتطوّر الموقف فحمل بعض الطلاّب مقاعد الفحص، وقطعوا بها طريق الشام، أمام المدرسة، وكان الطريق الوحيد الذي يربط حمص بالشمال، وبالجنوب، وبالغرب، وبالشرق، وهكذا تعطّل السّير على مستوى القطْر، وبدأت برقيّات الاتّصال بين المحافظات تُفيد بإعلام ذلك، الطلبة يهتفون، ويُنشدون، وربّما كان ذلك يسرّ بعض المدرٍّسين المناوئين لحكْم الشيشكلي، وهم كُثر، وكان صمتهم للمحافظة على لُقمة العيش، فقد سرّح الشيشكلي كثيرين من وظائفهم، تقدّم أحد الأساتذة، وقد بدت على وجهه ملامح الأسف،.. تقدّم من الذين قطعوا طريق الشام بالمقاعد وقال معاتِباً:« هل يُعجبكم هذا المنظر»؟!! وأشار بيده إلى ماتكوّم وامتدّ، فتقدّم منه طالب كانوا قد حلقوا له على الصّفر قبل يوم واحد، .. تقدّم منه وقد أمال رأسه باتجاهه وهو يقول له:» هلْ يُعجبك هذا المنظرْ»؟!!
كان وعي الطّلَبة السياسي ، والاجتماعي، والثقافي يبدأ من المرحلة الإعدادية، ويزداد تدرّجاً كلّما ارتقى في الدراسة،
أنا لا ازعم أنّ جميع الطَّلَبة كانوا على سويّة واحدة في ذلك، فقد كانوا متفاوتين، ومختلفين، بيد أنّ سِمَة التفتّح كانت تبدأ منذ ذلك الزمن، وكالعادة، وكما هو الحال في جميع المجتمعات، كان ثمّة طليعة هي التي تتقدّم وتقود.
لاأدري هل هو من التقدّم الحضاري في شيء أن نصل إلى زمن أصبحت فيه ( الطفولة) بمعناها المجازي تمتد حتى تصل إلى طالب الجامعة؟
لاأقول إنّ هذا قدَر، بيد أنّ فاعليّة الوعي، وعمق الانتماء، وصفاءه، يلعبان دورا مهمّا، ونوعيّا في ذلك، فهاهم أطفالنا في فلسطين يواجهون المحتلّ الصهيوني، بصدورهم العارية، يُستشهَد مَن يُستشهد، ويُجرح مَن يُجرح، ويُعاق مَن يُعاق، ولا يُثنيهم بطش العدوّ عن الهدف الواضح الذي لامساومة فيه : تحرير فلسطين….
aaalnaem@gmail.com
عبد الكريم الناعم