بتلك السَّهرة الماتِعة، روى «رشيد» لثلّةٍ من ضيوفه، خلاصة ما جرَى معه:
والله يا جماعة، كنت كلّما مررت بقريته «…»، باتجاه ناحية «…»، منها إلى «مشتى الحلو» الآسِرَة، ومنطقة «الكفارِين» السّاحرة، تحثّني نفسي لزيارة صديق قديم يُدعَى «جلال»، من أيام دراستنا بالستّينات بـ «دار المعلمين»، حيث بقينا بِرِحابها أربع سنوات؛ بعد التخرّج، تفرَّقنا «أيادِيَ سَبَأ»، كما يقول المثل..
قاطعه «بلال»:
بعد التخرّج، هل التقيتَ «جلال»، ولو مرّة؟
التقيته مرّتين، الأولى: ببوّابة الكليّة الجويّة بحلب، عند زيارتي أحدَ أقربائي، حيث كان طالباً مُسْتجِدّاً هناك، وبمحض المصادفة، لمحت «جلال»، يتهادَى باتّجاه بوّابة الدّخول.. كان على شفتيه ظلُّ ابتسامة مُنغَّمَة، ظننتُ أنه يقصدني بها، لكنْ يا لخيبتي، كان يقصد بها زائراً آخرَ..
قال ضيفٌ ثانٍ، يُدعَى «رغيد»:
الأهمّ هل جرى بينكما سلامٌ وكلام؟
ارتشف «رشيد» رشفة شاي شبه ساخنة:
والله يا «رغيد»، حين اقترب «جلال»، رأيته ببزّته العسكرية، كطالب ضابط، بكامل لياقته، لكنّ استقباله لي، كان أشبهَ بماءٍ فاتر؛ الحقّ لم أكنْ مسروراً وقتها..
قال «رفيد» مشاركاً بالحوار، بعدما نفث منْ فمه وأذنيه ومنخريه، ما غبّه منْ «نيكوتين» سيجارةٍ، لا تزال مُعْتَقَلة بين إصبعيه:
اَيُعقل أنّه تجاهلك عمداً، وأنت القائل بعظمة لسانك، إنّ المدّة ما بين فترة التخرّج، والتحاقه بالكليّة، لم تكن سوى بضعة أشهر، إذن كيف نسِي صورة وجهك، أو نبرة صوتك؟!…
هكذا أمضى الأصدقاء باقي سهرتهم، في أحاديث ملوّنة، لكنّ «رغيد»، عاد ليسأل:
لم تذكر لنا، أين التقيتَه مرّة أخرى؟ قلتَ بِسِياقِ الحوار، إنّك التقيتَه مرّتين فقط، بعد تخرّجكما في «الدّار»؟
حكّ «رشيد» أنفه وشاربيه، نَبَسَ:
المرّة الثانية، التقيتُه بمنزله، بقرية «…»، كنت بالفترات الأخيرة، أمرُّ بالطريق العام، الذي يشقّ القرية منْ جنوبها لشمالِها، باتّجاه «المَشتى»، و»الكفارِين»، لكنّني إمّا أن أكون بسيّارة أحد الأصحاب، أو بسيّارتي، وكنت ذهاباً وإياباً، أنوي زيارته، لكنّ الظروف تخونني..
أخذ نَفَسَاً، شرعَ يشرب الشّاي بِتؤدَة، دون أنْ يُحدِث صوتاً، تابعَ:
في مرّة، كان سفري إلى «الكفارِين» وحيداً، دون زوجة ولا أولاد، صمّمتُ هذه المرّة زيارة «المعلّم – الضّابط» «جلال»، دلّني رجلٌ كهلٌ على بيته: (يا أستاذ، شايف تلك التلّة المَمْشُوقة بآخر القرية، إلى الشّرق، عندما تقترب منها، سيقابلك منعطف جهة يدك اليُمنَى، هناك اسأل عنْ بيت صاحبك، أهل القرية يعرفون بعضهم بعضاً، على عكس سكّان المدن)..
البيت طبقة واحدة، حواليه أرض فسِيحة، مزروعة بأشجار الزّيتون والرمّان والجوز والكرمة، وأشجار سرو كَمَصدّات للرّياح، فالمنطقة مشهورة بهوائها الشّديد..الأهمّ، نَحَرْتُ الجرس، خرجتْ بوجهي امرأة، قلتُ بعد السّلام: (لطفاً:هل هذا بيت السيّد «جلال»)؟ قالت: نعم! قلتُ حتى لا تستغرب فَحْوَى حضوري: اسمي «رشيد»، صديق الأستاذ «جلال» من أيام الدّراسة بـ «دار المعلمين» بحمص! رحّبتِ المرأة أيّما ترْحيب، بوجهها البَسّام قالت: «هو بالدّاخل تفضّل، زارتنا البركة، يا أهلاً ويا سهلاً، سيفرح جلال بلقائك»! الحقّ، أخجلني ترحابُها البادِي، النّابع من القلب، ألمْ يقولوا: «لاقِينِي ولا تطعمِينِي»؟ قال الصديق «شوقي»، (ماذا بعد؟ أكملْ، الله يرحم والديك، لقد شوّقْتنا لسماع نهاية الحكاية)! قال «رشيد»: بلا طول سِيرة، أجلستني المرأة بقاعة الضّيوف، استأذنَتْ لتدعوَ زوجها للقائي، بعدما عرّفتُها باسمي الثلاثي.. عادت من الداخل لِمجالستي ومحادثتي، فالتحدّث إلى الأضْياف نوعٌ من القِرَى عند العرب.. جِئْنا «أنا وهي» على سِيرة الأولاد، على سنوات الدراسة، والرّحلات التي كانت إدارة «الدّار» تقوم بها، تحدّثنا عنْ مرض «الزّهايمر»، عنْ إصابة زوجها الطيّار بحرب 1973، حين أصِيبت طيّارته الحربية، بصاروخٍ مُعادٍ، لكنّه نجا بأعجوبة، حيث بقي بالمستشفى فترة طويلة.. استأذنَتْ مرّة أخرى، عادت تحمل بيديها الكريمتَين، وابتسامتها الريّانة تشكيلة من الفاكهة، عدنا لتجاذب الحديث، بانتظار إطلالة الصّديق، الذي لم أرَ وجهه، منْ خمسين سنة، أي من العام 1969.. يا شباب، حين دخل «جلال» القاعة، وقفتُ لاستقباله ومُعَانقته، كان يرتدي نظّارة طبيّة سميكة، بدا ممتعَ الوجه، ضعيف الِبنْيَة، بادَرَتْ زوجته: (سامِحْنَا، نظرُ «جلال» صار ضعيفاً، ثمّ إنّ مرض «السكّري»، هدَّ عظامه)! المهمّ تعانقنا، حين تفوّهْتُ باسمي كاملاً، قال بنفيٍ تامّ: «لا أتذكّرُك»! وحين شَرَعْتُ أستعرض أسماء المدرّسين والطلاب، الذين مرّوا علينا، كان جوابه حاسماً: سامِحْنِي، والله لا أتذكّر واحداً منهم، حتّى أنتَ، لا مُؤاخذة.. وحين كنت أذكّره ببعض مواقف حصلت مع مدرّس الموسيقى «هاني شموط»، أو مدرّس الفلسفة «سامي نعنوع»، أو مدرّس التربية الرّياضية: «مروان الأمين»، كذلك كان النّفي هو جوابه القاطع.. وحين أمْلَيتُ على ضفّتَي أذنيه أسماء عدد من زملاء «الدّار»، مع كنية كلّ منهم، كذلك لم يتذكّر، ولو اسماً واحداً، وحين قدّمت له اسمي الثلاثي مرّة جديدة: كذلك لم يتذكّرني بَتّاً.. وقتها يا جماعة، امتَشَقْتُ طُولي مُسْتاءً، مُستأذِناً بالانصراف، إذ كيف أبقى ببيتٍ، لا يعرفني فيه صاحبُه؟! ولولا إلحاحُ الزوجة المحترمة، «بأنّ القهوة على النّار»، لما جلستُ دقيقة، وحين أوصلني لِسيّارتي، كان آخر سؤالٍ لي:
هل نَسِيتني يا سيّد «جلال» حقّاً؟ قال: واللهِ وصدقاً ما عرَفتُك، سامِحْنِي، العتب على الذّاكرة، ثمّ لا أذكر أنّنا التقينا يوماً من قبل!
وقتها فَعَّلتُ مُحرّك السيّارة، وأنا بحالةِ تأسٍّ وإشفاق ممّا سمعت ورأيت، خفتُ عليه حقّاً من أنْ ينسى الرّجوع إلى داره.. عادَ، بينما السيّارة شرَعَتْ تخبُّ الطريق، باتجاه «الكفارِين»، حيث لديّ موعدٌ هامّ مع النجّار «عَوَضِيْن»..
وجيه حسن
المزيد...