قُدِرَ على أبي الورد كما هو حال معظم الناس أن يُهجَرَ من بيته الذي كان بناه بعرق جبينه بعدما وضع كل ما جناه من تعب العمر ، وكدِ الأيام والسنوات ، ولأنه يقنع بالحظ ، وأن الحياة قسمة ونصيب ، فقد بلع الغصة في الحلق ، وقبل مرغماً على أن يغادر مسكنه الذي لم يغادره يوماً إلا ما ندر ، وبدأت رحلة البحث عن سكن ٍ جديدٍ عله ينسى واقعاً مفروضاً ، وحالةً لا بد له من التكيف معها ، وهو الذي كان يؤجر البيوت للآخرين ، فالحياة لا تدوم على حال ٍ متماثلة ٍ ، ولا تستقر على مسار ٍ مستقيم ٍ ، فراح يردد قول الشاعر الأندلسي أبي البقاء الرندي :
هي الأمور ُ كما شاهدتها دولٌ
من سره زمن ٌ ساءتْهُ أزمان ُ
وفي رحلة البحث هذه التي أرجعته ليتذكر رحلة ابن بطوطة ، مع أنه كما يصف نفسه مثقوب الذاكرة والجيب ، فهو لا يتذكر إلا اللحظة التي يعيشها ، وكانت تلك المسألة غالباً ما تسببُ له الكثير من الحرج عندما يقابل شخصاً يسلم عليه ، فيعجز عن تذكر اسمه ، أو أين التقى به ، وكيف تعرَف إليه أول مرة ، إلا أن تلك المسألة التي كانت مشكلةً في وقتٍ سابق أصبح يجد فيها خير وسيلة ٍ للنسيان ، وتجاوز الواقع ، والحياة التي ألقت بأعبائها الثقيلة عليه ، فأصبحت تلك المشكلة نعمةً لم يكن يدري أنه يمتلكها ، لولا أن سمع مصادفةً عندما كان يركب سرفيس أجرة في الطريق إلى عمله المطربة ميادة الحناوي تغني من المذياع : (وأنت مكتوب لك يا بختك نعمة النسيان) وهكذا راح يستشعر في نفسه قوةً لم يكن يعرفها ، ليزيد من قناعاته بأن الإنسان يمتلك قوى خفيةً بلا شك ، ولكنه لا يدركها لانشغاله بالحياة ، وأموره الدنيوية ، فلا بد من تأمل الإنسان نفسه ليكتشف ما منحه الله من قدرات ٍ كامنةٍ لا يجوز له أن يبقيها في طي الجمود ، وهكذا اكتشف أبو الورد أن ما كان يزعجه ، ويسبب له نوعاً من الحرج ،والمواقف المربكة وجد فيه مجالاً لتجاوز الواقع ، والتكيف مع الحالة ، والظروف الطارئة ، وراح يتابع مسيرته البحثية في الوصول إلى استئجار بيتٍ جديدٍ ، وقد تحقق له ما أراد ، فاستأجر منزلاً في أحد الأبراج متوسماً في هذا العلو أن يغير واقعه ، فالمنازل كما كان يسمع من حكايات الجدة كالنساء قد تسعد الرجل ، أو تجعله يعيش الأمَرين ، فالحظ في العتبة كما كان يسمع ، وهكذا تفاءل بالعلو ، وأنه سيسكن في الطابق السادس ، ما أعاده بالذاكرة إلى أيام الطفولة عندما كان تلميذاً في الصف السادس ، ولم يدرِ كيف قفزت إلى ذاكرته تلك المرحلة ، وهو الذي لا يتذكر إلا لحظته ، فاستبشر بهذا التداعي الاستذكاري خيراً ، وراح يقصُ على صاحب المنزل حكايته في الصف السادس حينما كان تلميذاً متفوقاً يشيد فيه مدرس اللغة العربية ، فيصطحبه من شعبة ٍ إلى أخرى ، ليقرأ عليهم موضوعات الإنشاء التي كان مميزاً فيها ، وبعدما انتهى من الحديث ، ووقع عقد الآجار ، ودفع أجرة الثلاثة أشهر مقدمةً ، لينطلق مسرعاً مستبشراً بما أنجز إلى أم عياله ، ليبدأ بٍنقل ما لديه من بضع ملابسَ له وللأبناء ، وبعض أوانٍ مما أعطي له من معوناتٍ ، رن هاتفه الجوال ، ليخبره صاحب المكتب بأن المصعد في البرج لا يعمل ، وعليه نسيانه .
د. وليد العرفي