من البديهي والمعروف، لدى أرْباب العقول المتنوّرة، أنّ ثقافة الإنسان، تُعَدّ مؤشّراً صادقاً على منسوب الوعي، الذي يتمتّع به هذا الكائن البشري! وهنا تكون العلاقة بين «الثقافة»، و»الوعي»، على شكل تناسب طرْدي.. فإذا جاء ما تطرحه «وسائل التثقيف»، مائِعاً رَجْراجاً، عديم الوزن، ضحل القيمة، بعيداً كلّ البُعد عن مفهوم التثقيف الحقيقي، انحلّ العقل، تدهور الوعي، وصار الجَزْرُ غالباً على المَدّ، وهنا الطّامّة الكبرى! لكن، إذا جاء معايِشاً لهذا المفهوم، متشرّباً أدقّ تفاصيله ومعانيه وفَحاوِيه، تماسك العقل، وتطوّر الوعي، وارْتقى منْسوبه! وما بين الارْتقاء والتّدهور، يقف «الجهاز الإعلامي»، ليحدّد من خلال ممارساته وأنشطته المُتكثّرَة، أيّ المصيرَين سيلاقي هذا الوعي، وذلك عبر ما ينتجه هذا «الجهاز» من موادّ إعلامية وثقافية، أو عبر منحه تراخيص النّشر، وتأشيرات الدخول لبضائع الجهات الأخرى! بهذا السّياق، لا نجافي الحقيقة حين نقول: إنّ المجتمع العربي، من مائه لمائه، مَغزوّ هذه الأيام، أكثر من أيّ وقت مضى، وعبر وسائل الإعلام كافّة، بحشودٍ ضخمةٍ من الكتب، والمجلات، والصحف، والأعمال التلفزيونية، والسينمائية، والمسرحية، جُلّها مُترَدٍّ في مستواه، عقيم بمحتواه، أصفر بفحواه، حتى ليبدو للمتتبّع المُثابر، أنّ القائمين على كثير من دور النّشر، ووكالات الإنتاج الفنّي، يتنافسون فيما بينهم، للوصول أوّلاً إلى «الهاوية – القمّة»!! «الهاوية»: المتمثّلة بعرض العملات الأشدّ رداءة، وبالتالي الأكثر رَواجاً! و»القمّة»: تتمثل في بلوغ الأرْباح الهائلة الطائلة، نتيجة الإنتاج والتوزيع الكبيرَين.. وهناك حزمة من الأسئلة المُلحّة، يجدر بنا طرحها هنا: لماذا أضحت «التّلفازات»، على تفاهاتها وسخافاتها وخزعبلاتها، هي الجليس المُحبّب لنا عند كلّ مساء؟ وإلى أين سيقود خمولُ و كسلُ العقلَ العربيَّ، بعدما استعمر واستوطن ، بقوّة الجهل والضّياع؟ مَنِ المسؤول عن عملية الاغتيال البارد، والتّدمير البطيء، لهذا العقل، من خلال الحدّ تدريجيّاً من قدرته على اكتساب الوعي والإدراك في آنٍ معاً؟ وأخيراً، وليس آخراً، أين يقف – من كلِّ هذا – الرّقيبُ العربيُّ، وطاقمه المتمرّس بالقصّ والشّطب، والحذف والمراقبة، وباعتبارهم «مركز التفتيش الحدودي»، المُفترض أنّه يصادر السّموم المُهرّبة، وعلى وجه الخصوص، تلك التي تَعبرُ في وضح النهار، تحت عين الشمس والسّطوع! لكن، من «الضاحك – الباكي»، أنّه بدلاً من السعي الحميم الحميد، إلى إعادة التوازن للإنسان العربي، ودعمه ضدّ التّخلخل، وبوادر الانهيار والتردِّي، فقد أباح الكثير من أجهزة الإعلام العربي عملية الإمتاع السّخيف، والترفيه الأجوف، وسمح لِمَنْ ينظرون إلى علاقة الإنسان مع الثقافة، على أنّها مجرّد «تجارة» مضمونة الرّبح، ذلك بأن يدشّنوا مؤسّساتهم الثقافية والإعلامية، كي يذهبوا ببراعةٍ واحترافٍ إلى ترفيه المواطن، ومساعدته على التخلّص من مشاعر الألم والقهر والكآبة، تلك التي بحقيقتها وبِأُسِّها وأساسها، تعمل على تخدير الوعي، وتغييبه، وشلّ نشاطه، وتقدِّم صوراً فانتازية «خيالية»، تزيّف الحقيقة، تشوّه الوعي، تستهدف تلْهية الإنسان العربي عن تلمّس واقعه المرير، وتقليل دوره في الحياة الاجتماعية، المتطوّرة إلى الأمام! باختزال واختصار، وحتى لا يُصاب القارىء العزيز بِدودةِ الملل، أقول بملءِ الفم، وملءِ الوجع: إنّها – ومن أسف بالغ – ثقافة «الكلمات المتقاطعة»، ومتابعة أخبار «نجوم الفن ونجوماته»، وسباقات «ملكات الجَمَال»، و»سباقات الهِجن»، وسباقات «القوارب الشّراعيّة»، وسباقات «أجمل عنْزة، وأحلى تِيس»، وبرامج المصارعة والملاكمة، وسباقات السيارات، وبرامج السّخافة وهدر الوقت، والدّعايات ذات الدّيمومة، التي لا تُسمن ولا تُغني، وهلمّ جرّاً وَسَحْباً.. وفي الوقت عينه، هي أيضاً ثقافة الانفعالات الرّخيصة، والمشاعر المُبْتذلة، والشخصيات المُزيّفة.. هذه وأشباهها ونظائرها، تشبه عملية تجميل فاشلة، تهدف إلى تلوين القبورِ بألوان الرّبيع الزّاهية، وطمْس الحقائق السّود، وحجب الخرائب الماثلة، وآثار الدّمار المُوجِع، بصورة قصور فخمة، وحدائق غنّاء، و»ماكياجات» ساقطة.. على الضفّة الأخرى، يمرّ هذا الإنتاج المَوبوء، هذا الوليد المُشوَّه، بسلامٍ تامّ، تُفتَح له وأمام ناظريه أبواب الإقبال الجماهيري، وكسرطانٍ غيرِ حميد، تتفشّى آثاره المميتة، في الأفئدة والعقول والأرْواح.. فحوى الكلام، المملوء وجعاً وقهراً واستياء: لقد أدّت هذه الثقافة مهمّتها التّخريبيّة، على أفضل وجه، الأمر الذي أعْمَى بصائرنا وأبصارنا، على حدّ سواء، هل يُستعَاد الوعي، وتعلو شعلة الثقافة، لنتلمّس حصى الطريق، وغاية المسعى؟ هذا هو المأمُول والمُرْتجَى والمُنتظَر…
وجيه حسن