في ذلك الزمن البعيد ، القريب في الذاكرة، وفي تلك القرية حيث وُلدت ، كنتُ كما أقدّر الآن في التاسعة من عمري، وذات يوم كان كلّ القادرين على العمل، كبارا وصغارا في حقولهم، وكان والدي رحمه الله يومها في إجازة، اقترب رجل من بيتنا وهو يجرّ فرسَه، وأعرف كم يحترمه أهلي، ويجلّونه، وكان أهلا لذلك، حين رآه والدي أسرع نحوه، وأخذ رسَن الدّابة من يده، وقال له « تفضّل، أنت تجرّ هذه الدّابة ذاهباً للطاحونة؟!! أما في القرية أحد غيرك»؟!! فأجابه :» كلّهم في الحقول، وكاد الطحين ينفد، ناداني والدي وقال لي:» أمسك برسَن هذه الدّابة، واذهب بها إلى طاحونة (المحموديّة)، تعرفها أليس كذلك»؟!! قلت :» أعرفها»، وكانت تبعد عن القرية بما يعادل مسيرة ساعة و أكثر قليلا على الماشي، لم يُركبوني على ظهر الدّابة خيفة من أن تجفل فأقع انا والكيس، أمسكتُ بالرسَن واتّجهت نحو الشرق المنحرف قليلا إلى الجنوب، فهذا الدرب تعرفه أقدامي الحافية جيدا، إنّه الطريق الموصل لنهر العاصي، إبّان صفائه، ونظافته، وزهو شبابه، اجتزت جسر سكّة الحديد، واتّجهت نحو الطاحونة، وعلى يساري، على بعد نصف كيلو متر تقريبا، ينتصب جدار من الصخور العالية، السوداء، وتلك التي يميل لونها إلى الاحمرار، لاأخفيكم أنّي كنتُ خائفاً، فحكاية الجنّ التي زرعوها في رؤوسنا تلاحقنا حيث اتّجهنا، ولو صادف وأجفلت هذه الدّابة من شيء ووقع كيس الحَبّ، فعليّ أن أنتظر حتى يمرّ رجلان، رجل واحد لايكفي لإعادته إلى ظهر الدّابة، فجأة انطلق صوت واضح النّبرات ينادي عالياً، وبصوت ممطوط :» يا…عبدو ، باابن حوريّة»، ورفعتُ صوتي بحيث يسمعني وصحت: « شو بدّك»؟، فجاءني صوت معزى، فامتلأت رعبا، وتكرّر النّداء، وتكرّر الرّعب، ولم يهدأ الخوف حتى أشرفتُ على التّبّة التي يوصل منحدرها إلى الطاحون، حين اقتربت أكثر ملأت أنفي رائحة رطوبة العاصي، ممزوجة برائحة الطحين، أوقفت الدّابة، وسلّمت على اثنين جالسين في ظلّ جدار، ورجوتهما أن ينزلا كيس القمح، وضعا الكيس بدوره،وجلست انتظر، فلم يأبه أحد بصبيّ في التاسعة من عمره معه كيس قمح، وطال الوقت، وبدأ الجوع يعضّني، وليس في جيبي سوى أجرة الطّحنة، وحتى لو كان معي شيء فليس ثمّة مكان تشتري منه، وبدأ الجوع يزداد شراسة، وحرّك سكاكينه أنّ العاملين في الطاحون بدؤوا يخبزون على الصاج، وامتلأ الجوّ برائحة الخبز، حتى لم أعد أشمّ غيره، فهربت عبر الجسر الحجري الذي يحتاج إلى انتباه شديد في قسمه الجنوبيّ لأنّه شبه مهدّم، وقفت أبحث عن شيء يصلح للأكل، فلم أجد إلاّ حيرا من البصل الأخضر، فبدأت أقتلع البصلة، وأنظّفها والتهمها، ومن حسن حظي أنّ البصل لم يكن حرّيفاً، أكلت حتى كرهت رائحة البصل، وعدت أنتظر دوري، وحين جاء هذا الدور جلست ألمّ الطحين، وأعبّئه في الكيس، وهم يأكلون خبز الصاج ومعه بعض الأدام، وعاودني ألم الجوع، فبدأت أسفّ الطحين السّاخن الخارج من تحت الرحى، تناولت منه ماأوقف بعض ذلك الألم، لقد ربّانا أهلنا على ألاّ نأتي بفعل معيب، وكان معيبا أن أطلب كِسْرة خبز.
حين انتهيت حمّلوا لي الحِمل على ظهر الدّابة، وجررتها من رسَنها،حين صرت قبالة ذلك ( الطّار) الحجريّ الذي سمعت منه النداء حاولت الإسراع قبل أن أسمع اسمي متبوعا بصوت معزى،
وصلت البيت قرب العصر، فتلقّتني المرحومة أمي بكثير من التوتّر، والاعتزاز، قلت:» ميّت من الجوع»، فأسرعت لإحضار شيء آكله، كان علينا أن نُصبح كبارا ونحن في سنّ الطفولة في ذلك الزمن، وحين رويت ماحدث معي، قال أحد أعمامي : «خوفه أسمعه ذلك الصوت»، وضحك.
وهاقد مرّ خمسة وسبعون عاما على ذلك الحدث، وقرأت فيما قرأت أنّ بعض الهلوسات تُسمعك أصواتا لايسمعها غيرك، ومع ذلك فما زلت أتذكّر ذلك الصوت الذي ينادي باسمي ويُتبعه بصوت معزى…
عبد الكريم النّاعم
aaalnaem@gmail.com