واحة الصحراء وامتداد آفاقها أوقعا في ذات المتأمل بها ، والساري في مراميها مقيماً عبر مضارب حمى ، أو السائر عابراً في مسالك دروبها ، أو المنشغل في رحاب عوالمها كبير الأثر ، تشده الى ذلك كينونته على قدر مدارج استجاباته النفسية ، ورؤاه الانطباعية ، وقناعاته المعرفية ، وحوادث خبرات التجارب أكانت له ، أم لغيره ليغدو ذا نزعة تأملية ، لا تخلو من تساؤلات ، وربما فلسفية ، وأخرى تطبيقية واقعية كثيراً ما أوجدت له مكاناً في طمأنينة حاجات ، والتمكين لاحتياجات ليكون حاضراً في راحة بال ، وسعة تكيف.
ولعل ذاك الأعرابي الذي تسابقت الشمس والرياح على جعله يتمسك بسترته أو بخلعها سرعان ما فازت الشمس هدوة سكينة عبر طاقة الدفء ،إذ لم تنفع هوجاء الريح بخبط عشوائها الغبي أن تفرض عليه غبناً أو قهراً أن ينزع سترته بل تمسك بها أكثر ، لكأن في أعماق نفسه إرادة تجذر مهما واجهتها التحديات لن تزيدها إلا تجذراً على تجذر فإباء الذات تعلو في صميم عزتها على نتوءات صلفة تستعلي من غير طائل ، وإن فازت في بعض معاناة أو متاعب ، فسرعان ما يزول العابر ، ويستوي الأصل الصحيح في مهاد القناعة أن كل مفروض مدعاة تحمل لكن إلى حين ، وكل يلامس همس شفيف الروح يوقظ مفاتن الجمال دفئاً وراحة بال ، وسعادة رؤى تراه يشرق مثل محيا يتنضر ببهاء الجمال ، ويوشى بشغاف الروح فتراه يستريح في خاطر مداه أنفاس الحياة ، وسردية النبض في الشريان الأبهر ، فتكون به الحياة عذوبة طبع تعلق سمح جذوره قناعات لاقيد أوهام تفرض في متاهات غبن .
وهكذا الأعرابي الذي خبر أصالة الشيح والقيصوم هوية عشق لسمت المدى في رحاب الصحراء يحاكي شميم عرار نجد وقوافي الوجد في مضارب
القوافي المنهملة على خدود قصائد معلقات و غيرها مقطعات و قد أضنى الصد و الهجران أو ما بين هذا و ذاك أوصال شعراء و غيرهم فأوقدوا الكلمات جمراً في ثلاث أثافيها راحت تسترحم الموقد – و عي دنيا الحياة صعداً كان ديوان العرب صلاة حرف في تهجد محراب واقع و مطالع تراث و مخزون ذكريات و ملاحم عبقريات
هكذا كان الاعرابي اذا ما وجد شجرة صغيرة هي الأصيص سرعان ما كان بخبرته يداعب التربة إلى جوار ساقها ليحظى بكمأة فما علا تراب الارض عياناً – أظهر ما في باطنها — فكان للعين رؤية اخضرار و كان للبصيرة اكتناز خبرة و كان لمخزون الثقافة التراثية ما شاع من مثل فلان عارف بمنابت القصيص « أي خبير بخفايا الامور»
و ما الخبرة المكتنزة بخصوصية صاحبها أو غنى غيره إلا مؤونة زاد في مسيرة العابر ضيفاًعبر صفحات تقص حكاية تراث و حاضر و مستقبل ضمن سجل الأجيال و ما هي إلا واحة مخضوضلة و مشوشبة في سرح اخضرار من آمال لبوابات أصباح متتالية في صوغ اوأد أو ضحى لشروق مبدعين على نباهة همم في قيم العلوم و الوراثة و أثر ذلك في مقاربة الواقع تحديات أو تداعيات أو أنماطاً سلوكية على درج فروق فردية هي نتاج طبيعية و معطيات قطرية و أخرى مكتسبة و مدى براعة الافادة منها وقدرات و تقريرها وتعميقها عبر شرفات معارف ووعي ،هي منارات على شطوط أزمان و أزمان
إن الخبرة « منابت القصيص «مبدئية تستنشقها النباهة و تسقيها الفاعلية النفسية عبر الجهد المدروس ، و ترتيبها قراءات مختصة في ما ورائيات ما يستجد من أمور قد تقسو على متصرفيها بقناعات أحكامنا المسبقة الصنع أو المتفق عليها أو ضيق فرق في وعينا أو تقلب المزاج و ربما بعض حساسيات توقدها غيرة أو يلهبها حسد و إذا ما تجلت الخبرة بعداً معرفياً حظيت القراءات و المرجعيات التحليلية فتراه يحيل الغضب أو السخط إلى دفق حب و تعاطف و تبدو عبارة : شكسبير « ليس في الحياة مذنبون– بالمعنى المعرفي التحليلي مسوغاً جميلاً لقراءة أوسع و تكيف أفضل و اكتشاف فالكمأة ببصيرة الغنى الوجداني و الاتزان العقلي فيصير الاتزان الانفعالي حكماً نقديا واعياً جراء خبرة معرفية في محاكاة صحراء الوجع الإنساني أو التعثر السلوكي فيأتي الرقي الإنساني في تعاضد الإنسان للانسان على تحديات الغربة الكونية و قيمها و فظائع حروبها و تناقض قيمتها و دهش بعض سلوكيات فيها يأتي الرقي بداك العاقل الأرحب عارفاً بمنابت القصيص لغابات من الف سؤال و سؤال.
نزار بدور