قصة … البائس والبحر …

مُنتشياً يصفر الهواء، طرباً تتمايل الأغصان، حفيفُ أوراق الشجر يغنّي غناء عذباً، طيور النّورس البيضاء، تلامس بحركاتها البهلوانيّة اللافتة وجهَ الماء الأزرق – الأخضر – اللازورديّ.. الكلّ محبورٌ بهذا الجو الماتع، حيث نيسان ينشر أجنحته الربيعيّة المُونِقة على كلّ الكائنات، مُبشّراً بقدوم الصيف.. أمّا هو، فقد وقف بهيئته الرثّة قبالة البحر، كان بوقفته متجمّداً كتمثال، كأنّ مهرجان الطبيعة، لم يحرّك بأعماقه ساكناً، لم يخرجْه عنْ صمته.. بِلحظة ما، فكّ عقدة صمته، شرعَ يخاطب البحر بعتابٍ فيه بحّة ناي متأوّهة:
«يا بحر يا صديق الحزَانى، لماذا خُلِقتُ بائساً مثل كثيرين من أمثالي؟ أرجوك، أقبّل رذاذ موجاتك، أقنعني بكلماتك النديّة، لعلّ نفسي المُلتاعة تهدأ، فترتاح»..
سمع البحر هذه الآهات، وكجوابٍ آنيٍّ أرسل نحوه ثلة من عرائس موجاته، تطيّب خاطره، ترطّب جبلاً منْ قهر يعتوِرُه! حين لم تقتنع نفسه بكلمات البحر، كان يعاود أسئلته:
«.. يا بحر، لماذا تجاهلْتني، ولم تجبْني؟ أنت بِغَورك العميق تفهم دْوَاء القلوب، أوجاعَها، سألتُك يا بحر، لماذا خُلق التّعساء أمثالي؟ لماذا ينشر البؤس خيامه السّود، بمناطق كثيرة، من هذا العالم المُتراحِب»؟ لكنْ لا جوابَ مقنعٌ حتى اللحظة!
حين سمع البحر موجة العتاب للمرّة الثانية، امتعضَ، فهو بهذا العرس النيسانيّ الرائع، غير راغب فيمَنْ يعكّر صفوه، وسروره الداخليّ .. وعبر ألسنة موجاته الغالية، وموسيقاها العذبة النديّة، كان يؤكد لنفسه:
«كلّ شيء مبتهج الآن، موجاتي، نوارِسي، أسماكِي، البلابل، العصافير، أغصان الشّجر، العشّاق، الأطفال، السبّاحون، المرتادون من كلّ الأعمار، حتى ذاك الصياد البسيط المسكين، الذي قبع على تلك الصخرة الكبيرة القريبة منّي، مادّاً صنّارته العتيقة إلى جوفي، لأجودَ عليه ببعض سمكاتي الحبيبات»…
بصورة أو بأخرى، سمع الصيّاد كلمات البحر الرَّهْوة، كان بأعماقه مرتاحاً إليها، قال للبحر مستعيراً لكلماته ليونة الماء:
(أيّها البحر الزّاخر بالعطاء، امنحني اليوم، ولو بضعَ سمكات صغيرات، قد وعدت ولدي الصغير «نسيم»، بأنّ العشاء سمكٌ هذه الليلة، قلت له قبل أنْ آتي إليك:
انتظرني يا «نسيم»، لا تنمْ يا ولدي، سأعود بعد بعض الوقت، والسمك معي)!
سمع البائس المحاورة التي دارت بين الصيّاد والبحر، على وجهه الخشبيّ ارتسمت ملامح قلق إضافية، لا يدري سبباً مُوجباً لها، لكنّه على مضضٍ بَلَعَ قلقه، أو قليلاً منه، أيقن هذه المرّة أنّ عتابه البحرَ سيكون سخيفاً أجوف!
شيئاً فشيئاً أراد أنْ يتخلص من جموده وانكماشه، ها هي قدماه تهامسان أصابع البحر الطريّة، الممتدة إلى صدر الشاطئ بتدافعٍ مُسْتحَبّ، وبلعبٍ كما لعب الأطفال. جلس مقرفصاً، شرع يسلّي نفسه المضطربة، بأيّ شيء، بأصابعه المَعْرُوقة المنمنمة، داعبَ موجات قريبات، بِها غسلَ وجهه، علّه بهذه الحركات يتقرّب إلى البحر، يصبح محبوباً لديه، قريباً إلى ليونته، ليجد عنده أجوبة شافية لأسئلته كلّها!
وقتها كان البحرُ منشغلاً عنه تماماً، لديه مهامّ شتّى، تضايقَ البائس أكثر فأكثر.. من دون قصد تلفّت، رأى جبلاً قريباً، آخرَ بعيداً، رأى «شاليهاتٍ» فخمة، سياراتٍ من طُرز مختلفة، تذكر للتوّ أنه لا يملك بيتاً، وأنّه استأجر منزلاً بائساً من سنوات عدّة، بإحدى ضواحي العاصمة، وأنّ نصف راتبه الشهري، بل أكثر، يذهب للإيجار وفواتير الماء والكهرباء والاتصالات والمواصلات.. لمّا استفاق من شرودٍ آنيّ، عاد من جديد يخاطب البحر، طالباً إليه أنْ يعرف نبذة عن سيرته الذاتية المتواضعة، لعلّ جواباً مقنعاً يكون البلسمَ للجراح الرّاعفة:
«.. يا بحر، حطّم المقهى كثيراً منْ أيام شبابي، ولو لم يكن اليوم يومَ عيدٍ وإجازة، لما رأيْتنِي هنا»!
لكنه بلحظة ما، نسي نفسه، عاد للتساؤل:
يا بحر، قل لي: لماذا خُلقتُ تعيساً، مثل ملايين من التّعساء أمثالي؟ ثم ما الذنب الذي اقترفته يداي، لأكون واحداً منهم؟!
عطفَ البحر الزّاخر أعناق موجاته الغاليات، أرسلها إلى الداخل فالداخل، فهو لا يريد أنْ يسمع أنين البائسين، ولوعة المحزونين، بهذا العرس النيسانيّ السّاحر. قال لموجاته وهو يدعوهنّ إلى الرّحيل، والانسحاب ذاتياً:
«سيبقى هذا الرّجل التعِس بائساً لسنوات وسنوات، إذا بقي يجترّ أوجاعه وتعاسة روحه بالمجّان، إلا إذا حدث أمرٌ خارق مُباغِت، يعمل على نقله من ضفة إلى أخرى».
لمّا أحسّ البائس أنّ البحر تضايق منه، منْ أسئلته الفجّة الثقيلة، تراجع عنْ رمل الشاطئ، ليجلس هناك على صخرة عالية مُتأبّية، مكتفياً برؤية البحر منْ علٍ، ناظراً إليه بامتعاض واضح، محاولاً الاندماج فيما حوله قدر المستطاع، ناسِياً أو متناسِياً أنّه كان كسولاً بصفّه، متقاعساً بأداء واجباته المدرسية، وأنّه كان يهرب كثيراً من المدرسة، بتشجيع ومناصرة من بعض لِداتِه، أصدقاء السّوء والتّبغ والفراغ، متسكّعين لاهِين بالطرقات، بالحدائق العامة، بالأسواق، بالمقاهي، ودور السينما، ليكون مصيره الأسود، في القابل من الأيام، نادِلاً في مقهى بائس من مقاهي المدينة، بينما البؤس يلفّه طيّ أرديته، طيّ تعاسته، حتى الآن، وإلى سنوات قابلات..
وجيه حسن

المزيد...
آخر الأخبار